أحمد محمود عجاج
TT

الديمقراطية الليبرالية والنموذج الصيني: هل سيكون الغد واعداً؟

بعد انهيار المنظومة الشيوعية سادت فكرة انتصار الديمقراطية الليبرالية وحتمية تطبيقها في دول العالم قاطبة؛ الفكرة لم يُكتب لها النجاح رغم تفاؤل الكثيرين من سياسيين ومفكرين، بدءاً بالرئيس كلينتون الذي تحدث عن عيش أكبر عدد من البشر في ظل الديمقراطية وليس الاستبداد، وانتهاء بالمفكر فوكوياما الذي قال بنهاية التاريخ، بمعنى سيادة نظم الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية.
هذا التفاؤل سرعان ما تبين خطله مع بروز الصين كقوة عظمى، وانبعاث روسيا، ومع توجه كثير من دول العالم إلى نظم غير ديمقراطية ليبرالية، وبروز نظرية جديدة تناقض تماماً مفهوم الديمقراطية في ميدان الحقوق الفردية، بينما تتجانس معها في الاقتصاد. هذا ما طبقته الصين انطلاقاً من نظرية الانفتاح للرئيس الصيني دنغ شاو بينغ الذي استقدم النظام الرأسمالي لبلاده بعد زيارة لتايوان واطلاعه على التقدم الهائل الحاصل فيها، وقراره بالتحول تحت شعار: «ليس مهماً أن تكون القطة سوداء أو بيضاء، بل المهم أن تصطاد الفئران»؛ بهذه البراغماتية تخلت الصين عن الاشتراكية، واعتمدت الرأسمالية، لتصبح دولة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأميركية.
الفارق في هذا التطور أن الديمقراطية فقدت عنصر التميز الاقتصادي الذي كان أساسياً في انتصارها على الشيوعية؛ فليس من الضروري الآن لكي تكون متطوراً اقتصادياً أن تعتمد الديمقراطية الليبرالية، بل يمكنك اعتماد الشق الاقتصادي منها وتجاهل الشق الآخر المتعلق بحريات الأفراد، والأحزاب المتعددة، والحكومة التمثيلية والاقتراع السري، وحقوق الإنسان، وغيرها. هذا المنحى أوقف المد الديمقراطي في العالم، ولفت الأنظار لأول مرة لعيوب الديمقراطية الليبرالية الغربية، المتمثلة بالشعبوية، والتباطؤ الاقتصادي، وهزال القيادات السياسية، وتذمر المواطنين وعجز الحكومات عن إيجاد حلول لمشاكل مجتمعاتها، ما حمل كثيرين على التشكيك في قدرة الديمقراطية الغربية على الاستمرار، وتشجيع آخرين ومنهم الرئيس الصيني الحالي شي جينبيغ على اتهام الديمقراطيات بالضعف، ومجتمعاتها بالتفكك، وعدم القدرة على المنافسة. لذا لم يكن مستغرباً أن تشعر الديمقراطيات الليبرالية بالخطر، وأن تعمد إلى المواجهة، لأن ترك الأمور سيؤدي إلى خسارتها القدرة الاقتصادية، والتميز المعنوي، والقدرة العسكرية؛ لذلك رسم الرئيس بايدن شعار المعركة: مواجهة بين الديمقراطيات والاستبداد.
ولكي تنتصر الديمقراطيات عليها أن تحرم الاستبداد من سلاح الاقتصاد لأنه الركيزة الأساسية لبقائه؛ فالنظام الاستبدادي يستمد بقاءه من ثلاثة عناصر: الآيديولوجية، والنخب، والمؤسسة الأمنية والعسكرية. وعندما تعمد الديمقراطيات إلى محاصرة النظام الذي تصفه بالاستبدادي اقتصادياً، فإنها تجرده من سر قوته، وتجعله غير قادر على حل مشاكله الداخلية الاقتصادية، وعندما تركز على نخبه وتصفهم بأنهم يعيشون فوق الشعب، فإنها تدك إسفين الخلاف بين القيادة والمجتمع، وعندما تبرز تجاوزات أي نظام استبدادي تضخمه لدرجة يبدو مقيتاً في أعين أهله والخارج. وبما أن الديمقراطيات الليبرالية تملك التكنولوجيا المتطورة والمال الوفير والآيديولوجيا البراقة (الديمقراطية الليبرالية)، فإنها تعمل ليل نهار على تعرية النظم التي تصفها بالاستبداد بما تملكه من أدوات تكنولوجية معرفية وبالذات الإعلام الذي أصبح بالفعل يوجه الرأي العام العالمي؛ ولعل ميزة التكنولوجيا في الميدان الإعلامي أنها تشجع الغرائز وتؤخر عملية العقلنة، بمعنى أن حركة الأخبار سريعة لدرجة ألا يفكر معها الإنسان، وبالتالي يتشكل تفكيره وانحيازه كما يشاء صاحب التكنولوجيا، ليس فقط في دول الديمقراطيات، بل في الدول الموصوفة بالاستبداد. وإزاء هذه الحملة الضارية لا تجد الديمقراطيات حملة معاكسة موازية لها بالقوة، بل نرى انسحاباً واضحاً من المواجهة، وإذا كانت ثمة مواجهة فهي لا ترقى للمستوى المطلوب.
في هذه المواجهة، تتقدم الديمقراطيات على الأنظمة المنافسة بالمرونة في تغيير المسار، والتراجع، والقدرة على حل المشاكل، وإقناع المواطنين، والتفاهم مع المعارضة على رسم مسار المستقبل؛ بالمقارنة فإن الأنظمة السلطوية المنافسة تفتقد المرونة، لأنها تعتقد أن تعديل المسار هي ضرب للآيديولوجيا، وانكسار لهيبة الدولة، وربما إلى فقدان السلطة. ولعل المثال الأقوى على ذلك ما تفعله القيادة الإيرانية في مواجهتها مع المتظاهرين ضد الآيديولوجيا الحاكمة؛ فالنخبة الحاكمة في إيران ترى أن أي تنازل سيؤدي إلى رفع سقف المطالب، وإلى إضعاف هيبة السلطة والأهم خلخلة الآيديولوجيا، ولهذا فإنها تعتمد سياسة القمع كأداة وحيدة، بينما في الديمقراطية فإن أي أزمة تستدعي حتماً نقل السلطة من نخبة إلى أخرى معارضة، ودون أن تتخلخل أسس الدولة أو السلطة، أو أن تهتز الآيديولوجية.
ففي الأنظمة الديمقراطية، فإن الأزمة تمثل فرصة لمعرفة الخلل والتعرف على الحل المطلوب، بينما في الأنظمة المنافسة (السلطوية) تعد الأزمة خطراً وجودياً يستدعي تضافر النخب والمؤسسة العسكرية؛ وإذا فقدت النخب وحدتها العضوية فإن النظام يضعف وربما يسرع ذلك من عملية ابتعاد المؤسسة العسكرية عن السلطة الحاكمة وتركها لتواجه مصيرها.
في هذه المواجهة بين النظامين الديمقراطي الليبرالي والسلطوي الرأسمالي يعيش العالم أزمة كبرى متمثلة بركود اقتصادي، وحرب في أوكرانيا، وتهديد نووي في كوريا الشمالية وإيران، واحتمال حرب على جزيرة تايوان؛ هذه الحروب والتهديدات لن تنتهي بسلام دائم، بل على الأرجح أن تستمر طويلاً، لأن الديمقراطيات تستشعر خطر النموذج الصيني بكل ما يحمله من أبعاد، والصين ومعها نماذج أخرى تدرك مخاطر الديمقراطيات الليبرالية على نموذجها وصعودها المتوقع؛ وكما يقول المؤرخ اليوناني ثيوسيديس الذي أرخ للحرب بين إسبرطة وأثينا، فإن الحرب واقعة لا محالة عندما تشعر دولة كبرى أن أخرى تنافسها وتبني قواها وتحالفاتها، فتزيد هي الأخرى قوتها وتحالفاتها، وهكذا دواليك حتى تقع الحرب.
لا شك أن صناع القرار في النظامين يستشعران الخطر، ويدركان أن الحرب ليست في مصلحة أحد، وأن تداركها سيكون على شكل حرب باردة من نوع جديد سيعيشها العالم، كما عاش قبلها، برعب وخوف، لكن على أمل واعد أن الغد سيكون أجمل.