ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

«المونديال» والتأثير الثقافي: «أين ميسي»؟!

«أين ميسي؟»، سؤال تهكمي أطلقه الجمهور السعودي بعد هزيمة المنتخب الأرجنتيني أمام الفريق السعودي... لكنه سرعان ما لفّ العالم... أصبحت العبارة «معولمة» بنكهة سعودية... ترمز للصدى الذي أحدثه وجود هذه الفعالية الكونية في أرض العرب، أصبحت «الأرض بتتكلم عربي» كما يقول سيد مكاوي. لكن لا تنتهي هنا الحكاية.
الحكاية بدأت حين استفاق العالم على أن دولة عربية صغيرة؛ خليجية وشرق أوسطية، ستكسر قالب الصورة النمطية التي يجري حشر المشرقيين داخلها: صورة الفشل والفوضى والفساد والفقر والضعف والحاجة الدائمة للوصاية والحماية الأجنبية... فجأة استيقظوا على مثال مختلف، ناجح، ومبهر، وجذاب، قادر على المنافسة، والتفوق، وتقديم الأفضل. لذلك بدأ «المونديال» ثقافياً وهو يذبّ عن نفسه سيلاً من حملات التوهين والاتهام القائمة على فرضية تفوق عرق على آخر، ونمطية استعلاء ثقافة على أخرى. والمفارقة أنه مع موجات الاتهام بالاستغلال، وانعدام الديمقراطية... كشرت الليبرالية الجديدة عن أنياب متوحشة حين سعت بالقسر والإجبار لفرض سلوك وثقافات لا تمتّ للأرض الحاضنة ولا للجمهور بصلة... وكان يتعين على مئات الملايين من المشاهدين حول العالم القبول قهراً بما يتمّ فرضه عليهم، وإلا اعتبروا أعداء للديمقراطية والحرية والتعدد الثقافي.
يمكن القول إن هؤلاء فشلوا في «مونديال» قطر، لم يتمكنوا من رفع أعلامهم أو تسويق سماتهم وسلوكهم، ولم ينجحوا في إجبار الناس على الولوج إلى عالمهم وثقافتهم بالقوة، على العكس خاض الآلاف معركتهم الثقافية ضد فرض عادات وقيم لا يقبلونها.
أما النجاح الأكثر إبهاراً فكان في التأثير الإيجابي للثقافة العربية والتراث العربي والسلوك العربي الذي شاهده مئات الآلاف من الناس الذين وفدوا للمونديال... هؤلاء يمثلون عشرات الجنسيات حول العالم، خرجوا على الصورة النمطية المرسومة للإنسان العربي وللثقافة العربية... شاهدناهم يندمجون في الحديث واللباس والطعام وتقليد العادات العربية... الحقيقة أن الشعب المضيف كان مضيافاً ومتواضعاً ويتسم باللباقة، ولذلك أعطى صورة جاذبة للثقافة العربية. والحقيقة أيضاً أن المشجعين الأجانب وجدوا في زملائهم العرب صورة البساطة والعفوية وحبّ المشاركة والفكاهة... هذا السلوك يختصر المسافات للتقارب بين الشعوب، لا يمكن للدعايات المركبة أن تحلّ مكان التجارب الشخصية والاتصال المباشر بين الناس.
وجود المونديال في دولة خليجية عربية وشرق أوسطية فتح عيون الناس إلى حقيقة الأحكام المعلبة التي تقوم على نمطيات استعلائية تنتمي لثقافة الاستعمار، فالعرب ليسوا متوحشين ولا فاشلين وليسوا مفتونين بالثروة... حتى الصور التي ترسمها هوليوود والصحافة الغربية الموغلة في السطحية والجهل من قبيل: «صورة العربي المتكرش في خيمة إلى جواره قطيع من الإبل وبئر بترول»... هذه الصورة تلاشت أمام آلاف الصور لشوارع نظيفة وبيئة نقية ومدن منظمة ومواصلات متطورة، والأهم الإنسان المضياف الذي يدعو الزوار إلى بيته ويقدم الطعام والمشروبات في الطرقات لأناس لا يعرفهم، ويحترم تنوعهم الديني والثقافي.
كثيرون جربوا للمرة الأولى ارتداء الملابس العربية، وتناول الأكل العربي، والدخول في محادثات ومشاغبات طريفة مع عرب، واختلطوا وابتهجوا في الشوارع معاً... وبعضهم مضى أكثر نحو المكتبات والمتاحف ومحركات البحث ليفتش عن هؤلاء القوم الذين يتحدث العالم عن توحشهم، وعن استغلالهم للمرأة وعن هوسهم بالثروة، ليجد أنهم يشاركونه همّ الحياة وهمّ القلق على الكوكب وعلى نجاة البشرية.
نعم، ثمة موجة ثقافية إيجابية هائلة صنعتها الساحرة المستديرة حين حلّت في ديار العرب. وارتداداتها لن تقف أمام السؤال المستعرب: «أين ميسي؟»، أو «أين سالم؟»، ولا حتى «أين موراتا؟»، أصبح تأثيرها أعمق من ذلك، أصبح للعرب مزيد من الأصدقاء... فكما قلنا: «الأرض بتتكلم عربي»... وهذه هي الحكاية.