عبد الله ولد محمدي
كاتب متخصص في الشؤون الافريقية
TT

بنين... حين يطرق شبح الانقلابات أبواب الاستقرار

استمع إلى المقالة

لم تكن المحاولة الانقلابية الفاشلة في بنين حدثاً عابراً في سياق إقليمي مضطرب؛ بل جاءت حلقةً جديدة في سلسلة ارتدادات «عدوى الانقلابات» التي تمددت من الساحل إلى تخوم خليج غينيا.

قبل سنوات، حذرت التقارير من توسع نفوذ «القاعدة» و«داعش» نحو خليج غينيا الاستراتيجي، أمَّا اليوم فالخطر أصبح يتمثل في توسع دائرة الدول التي يحكمها العسكرُ، والتي أصبحت تشكل ما يشبه المعسكر الذي يخترق المنطقة، ولا شك أن دولة مثل بنين كانت لتشكل شرخاً مؤلماً في جسد منظمة «إيكواس» المنهك، وبوابة مثالية على خليج غينيا الحيوي، للمعسكر المحسوب على روسيا.

إنَّ ما يلفت الانتباه في هذه المحاولة أنها، رغم فشلها العسكري، ما زالت تفتح كل يوم كوة جديدة في جدار الغموض، عبر معطيات عن ضربات جوية نيجيرية، ومعلومات استخباراتية فرنسية، وتحركات مجموعات مسلحة قيل إنها جاءت من نيجيريا وساحل العاج، بل وحتى من سيراليون، الدولة الصغيرة التي لم تخرج بعد تماماً من ذاكرة الحروب الأهلية الطويلة.

كل هذا الغموض والتضارب، يؤكد أن ما حدث لم يكن مجرد انقلاب عسكري داخلي، وإنما تداعيات وضعٍ إقليمي يتأثر بمجريات الساحة الدولية، فالأمرُ يتجاوز طموح ضباط مغمورين في بلد هامشي، ليكون جزءاً من مشهد أوسع وأخطر. ورغم ذلك، لا بد من إلقاء نظرة على السياق الداخلي، خصوصاً أن الرئيس باتريس تالون لم يكن يرى في المؤسسة العسكرية خطراً وجودياً يهدد حكمه؛ فقد واجه في الماضي محاولات انقلابية محدودة، ما دفعه للاعتقاد بأنه نجح في تجفيف منابعها، متكئاً على خطته الأساسية: الاقتصاد أولاً.

نظر الرئيس القادم من دهاليز الاقتصاد، إلى الدولة بعين رجل الأعمال، بمنطق تقليص التكلفة وتعظيم المكاسب، وراهن على أن التنمية والاستقرار الاجتماعي هما أقوى جدار صد في وجه المغامرات العسكرية. وبالفعل، خلال أقل من عقد، تغيّرت صورة بنين بهدوء، وتقدمت في مؤشرات النمو، واستفادت من موقعها الحدودي مع نيجيريا لتحويل الجوار العملاق إلى فرصة اقتصادية لا إلى عبء جغرافي.

غير أن ما غاب عن هذا التصور البرغماتي هو التحول العميق في البيئة الجيوسياسية لمنطقة الساحل وغرب أفريقيا، فشبكة الدول التي عادت فيها الجيوش إلى الحكم؛ من مالي إلى بوركينا فاسو ثم النيجر، وصولاً إلى غينيا ثم الغابون وأخيراً غينيا بيساو، لم تكتفِ بإعادة إنتاج أنظمة عسكرية داخل حدودها؛ بل تحولت إلى كتلة إقليمية تحمل خطاباً سياسياً وأمنياً عابراً للحدود، يقوم على تبرير الانقلابات باعتبارها «تصحيحاً للمسار»، والترويج لفكرة أن الديمقراطية لم تعد صالحة لإدارة دول الساحل.

هذا التحول وُلد في سياق صراع نفوذ دولي مفتوح؛ فالقوى التي تسعى إلى تقليص الحضور الفرنسي بغرب أفريقيا وجدت في موجة الانقلابات تربة خصبة لإعادة رسم موازين التأثير. وهنا تتداخل روايات كثيرة: اتهامات لروسيا بالاختباء خلف خطاب «التحرر من الوصاية»، وحديث فرنسي عن محاولات منهجية لزعزعة ما تبقى من «المعسكر الديمقراطي» في القارة. وفي هذه المساحة الرمادية بين الأمن والسياسة، تصبح الانقلابات أدوات في لعبة أمم أكثر منها مجرد نزوات ضباط.

في قلب هذا المشهد المعقد جاءت محاولة بنين. لم تكن انقلاباً تقليدياً من داخل الثكنات فقط؛ بل بدا أنها استندت إلى شبكة أوسع من الدعم والتحريض والتخطيط، ما يفسر سرعة انتشار الروايات المتضاربة عنها بعد ساعات من فشلها. ولعل القرار الأكثر دلالة الذي اتخذته السلطات البنينية بعد ذلك؛ كان سحب الجنسية من سمي كبا، المواطن الذي خرج علناً مروجاً لنجاح الانقلاب ومتبنياً له، في خطوة عدّتها الدولة مساساً مباشراً بالأمن القومي. هذا القرار، بحد ذاته، يكشف أن المعركة لم تكن عسكرية فقط؛ بل إعلامية ورمزية أيضاً، في صراع على الوعي قبل السيطرة على السلطة.

نجاة بنين من هذا الامتحان الصعب منحت الديمقراطية الأفريقية جرعة أكسجين نادرة في زمن يتصدر فيه العسكر المشهد من جديد؛ لكنها في الوقت ذاته كشفت هشاشة التوازن الإقليمي، وسهولة انتقال «مزاج الانقلاب» من دولة إلى أخرى، حتى في بلدان لم تكن مصنفة ضمن الدائرة الساخنة للساحل، فحين تتجاور دول مستقرة نسبياً مع أخرى تحكمها مجالس عسكرية، يصبح الاستقرار حالة مؤقتة لا ضمانة دائمة.

باتريس تالون، الذي قرر عدم الترشح لولاية جديدة، وجد نفسه فجأة لا يدافع فقط عن مشروع اقتصادي؛ بل عن نموذج سياسي برمّته. انتقال السلطة الذي يسعى إليه بهدوء صار اختباراً إقليمياً، لا مجرد استحقاق دستوري داخلي؛ فنجاح هذا الانتقال سيكون رسالة مضادة لخطاب الانقلابات، بينما أي تعثر فيه قد يفتح ثغرة جديدة في جدار صدّ العسكر.

المفارقة أن معسكر مناهضي الانقلابات نجح هذه المرة في إنقاذ دولة جديدة من السقوط، وذلك بفضل التحرك السريع لنيجيريا، مستفيدة من تجربتها في النيجر، حين لوحت بالتدخل العسكري، ولكنها في بنين لم تلوح ولم تضيع الوقت... بل تدخلت على الفور ودون أدنى تردد، وتحركت طائراتها لضرب الانقلابيين منذ اللحظة الأولى. هذا التحرك النيجيري في بنين، والإسناد الفرنسي، أكد أن «المعسكر الديمقراطي» أدرك أن الأدوات التقليدية في مواجهة الانقلابات لم تعد ذات جدوى، وأن أفضل طريقة للحد منها هي استخدام أسلحة الانقلابيين؛ الضرب بقوة وسرعة، ثم التفكير بعد ذلك والتبرير.

لكن السؤال الأكبر يظل معلقاً: إلى متى تستطيع الديمقراطيات الهشة في غرب أفريقيا الصمود أمام رياح العسكرة المتصاعدة؟ التجربة تقول إن «الجرّة قد تسلم مرة ومرتين»، لكنها لا تسلم دائماً. وفي منطقة مفتوحة على صراعات النفوذ، ومثقلة بأزمات الفقر والإرهاب والهشاشة الاقتصادية، يبقى الاستقرار استثناءً يحتاج إلى حماية دائمة، لا مجرد حسن نية من الحكام... دون إدراك هذه الحقيقة يمكننا القول إن المنطقة دخلت في مرحلة «حرب الانقلابات».