أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

عالم متعدد الأقطاب!

ليسوا قلة من راحوا يفركون أياديهم فرحاً بالحرب الروسية على أوكرانيا، على أنها منعطف لولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، بديلاً لنظام أحادي القطب، تفردت خلاله الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، كما ليسوا قلة من شغل بالَهم هذا الاستنتاج، وأثار عندهم «مروحة» من الآراء والاجتهادات حول ماهية ما نعيشه وحقيقة ما ينتظرنا.
ثمة من لا يجدون فارقاً نوعياً بين عالم أحادي القطب، أو ثنائي القطب، أو متعدد الأقطاب، ما دام أسلوب القوة والركون إلى عقلية العنف والغلبة هما العلامة المشتركة في صنع تلك العوالم، وينصحون بعدم التسرع في إظهار البهجة والفرح بنظام جديد متعدد الأقطاب، ما دام يشكل استمراراً لجوهر ومقومات النظام القديم، ويحلل دور القوة العسكرية في منح التفوق والسيطرة لدول على أخرى، وفي تكريس مناخ يغذي منطق التسلط ولغة الحرب والسلاح، ما يفتح الباب موضوعياً أمام مزيد من القهر والظلم، ويوفر غطاء مريباً لتمرير أفظع الانتهاكات والارتكابات، وتغذية ردود الفعل العنيفة والنزاعات المتخلفة الإثنية والطائفية، التي لن تقف عند حدود.
بينما يلفت آخرون النظر إلى ضرورة التمييز بين ماهية النظم السياسية التي تؤلف هذه الأقطاب، ومدى تباين درجات علاقاتها بشعوبها وبقواعد الحياة الديمقراطية. ويصرح هؤلاء بوضوح أن سياسة الهيمنة الأميركية تبقى «الأقل شراً» ما دامت تحتكم للانتخابات ولإرادة مواطنيها وقابلة للتغيير ربطاً بأوضاعها وحاجاتها الداخلية، بخلاف دول وأنظمة تستمد دوافع هيمنتها من تعبئة آيديولوجية أو عصبية متطرفة، ولا يهمها أزمات مجتمعاتها أو رأي شعوبها وخياراتهم، كحال إيران وغيرها. ويدرج أصحاب هذا الاجتهاد أمثلة كثيرة تشير إلى ارتباط الهيمنة الأميركية وطابع سياساتها في العالم بوضعها الداخلي ومشكلاته، الذي عادة ما يؤسس لبرامج انتخابية متفاوتة، وأحياناً متعارضة، فحين بالغت واشنطن بتدخلاتها الدولية وتسعير الحروب خلال رئاسة جورج بوش الابن، حصل العكس تماماً خلال رئاسة باراك أوباما ليشهد الدور العالمي الأميركي إحجاماً وانكفاء، وصل عند الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من قمة المناخ، والدعوة لإنهاء دور حلف شمال الأطلسي!
وبين هذا وذاك ثمة من رفضوا من الأساس تعبير القطب وأظهروا تفضيلهم لاستخدام مركز قوة بديلاً عنه، معتقدين أن المناخ العالمي لا علاقة له بالأقطاب، بل تفرضه التوازنات بين مراكز قوة متعددة تتفاوت إمكاناتها وتوجهاتها بين مرحلة وأخرى، وإن صح اليوم اعتبار الولايات المتحدة مركز القوة الأكبر الذي يمتلك وزناً نافذاً في تقرير مصير كثير من الأزمات الدولية، بما ينسجم مع حساباته ومصالحه، فهناك تكتلات ومراكز قوى، ربما أقل شأناً ودوراً، لا يصح إغفال تأثيرها العالمي، ولا تتردد في انتهاج سياسات تخدم مصالحها، منها الصين وروسيا، وارتدادات تقاربهما؛ مثل مجموعة بريكس، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شنغهاي، ومنظمة آسيان، وغيرها، وبدرجة ثانية التكتل الأوروبي، إن أخذنا في الاعتبار الخطوات التي حاولت بعض دوله خطوها، قبل حرب أوكرانيا، للتحرر من النفوذ الأميركي، واتخذت الآن منحى جديداً يقوم على التمكن عسكرياً وزيادة المخصصات لتعزيز أمنها وتحديث جيوشها.
ليس ثمة طرف واحد قادر على التقرير والحسم عالمياً، كذلك يعلن أصحاب الرأي السابق، بل هناك أدوار فاعلة ومؤثرة لمختلف مراكز القوة في بناء المناخ الدولي، وإن لم يصل أي منها لتقديم بديل اقتصادي وسياسي وعسكري للنموذج الغربي القائم، حتى إن أظهرت تداعيات حرب أوكرانيا فشل محاولات روسيا وحلفائها في إنشاء سوق عالمية منفصلة عن تلك الرأسمالية التي يسيطر عليها خصومهم، لكن نجاح أميركا في حماية نموذجها لن يمنع موسكو من تكرار السعي لتأسيس فضاء خاص بها، وربما لإعادة بناء إمبراطورية روسية، حتى وراء أسوار حديدية، كما لن يضعف همة الصين في تغذية خصوصية تفوقها الاقتصادي وأشكال تسللها لتوسيع نفوذها العالمي.
في الرد على فرضية العالم القطبي، لا يجانب الصواب من يدعو إلى تركيز الاهتمام على تنمية الأوضاع الذاتية ومنحها دوراً رئيساً وحاسماً، محذراً من خطأ الركون والتسليم للواقع القائم والاعتماد على قطب ما، بدل الاعتماد على سياسات كفيلة بتغيير أوضاعنا نحو الأفضل، بما يجبر القطب الواحد أو الأقطاب المتعددة على احترام مواقفنا ومصالحنا. كما لا يخطئ من يتساءل؛ أين الدور المفترض أن تلعبه الأمم المتحدة في ضبط التوازنات وبناء التوافقات وإدارة الخلافات بين مختلف المكونات العالمية على أسس سلمية وندية؟ ألم يحن الوقت أمام عبث القوى العظمى لتعديل ميثاقها الذي أعطى مركزاً متميزاً للدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن؟ وألم تغدُ ضرورة لمواجهة المخاطر المشتركة التي تهدد راهن البشرية ومستقبلها، أن ننشر ثقافةً تُشجع روح التكاتف والتعاضد وتَدفع فكرة التشارك وقيم المواطنة العالمية إلى الأمام؟ وكيف من دون التشديد على نبذ لغة القوة والغلبة وتطبيق الديمقراطية في العلاقات الدولية، يمكن أن تحاصر أنظمة وفئات، لا يعنيها العمل الجماعي والبعد المؤسساتي العالمي، بقدر ما تعنيها مصالحها الضيقة وحسابات الهيمنة على مجتمعاتها، كما العبث بمصالح الأوطان الأخرى وهتك حقوقها؟
في 16 يناير (كانون الثاني) عام 1991، ومع بداية حرب الخليج، أعلن الرئيس الأميركي عن نظام عالمي جديد، وأن سيادة القانون، لا قانون الغاب، هي التي ستحكم سلوك الأمم! ومع حرب روسيا في أوكرانيا أعلن الرئيس الروسي عن انتهاء حكم القطب الواحد الظالم وعن عالم عادل متعدد الأقطاب!
لكن، كما كانت البشرية تحتاج إلى فشل أميركا في العراق وأفغانستان كي تقتنع واشنطن بعدم جدوى استخدام القوة المحضة لتكريس النفوذ والهيمنة، ولفرض ما تعتبره نظاماً جديداً، فإن البشرية ذاتها تحتاج اليوم إلى فشل صريح لقيادة الكرملين في حربها في أوكرانيا كي يعود الكل إلى رشده وإلى تشجيع البحث عن مكامن للقوة والتفوق غير القدرة العسكرية، أو التهديد بها.
ثمة طرق شتى أقل آلاماً للأمم في إدارة خلافاتها وصراعاتها، أوضحها التحرر من الاستقطابات الحادة والعودة للسياسة وبناء التوافقات والتفاهمات، وربما لن يطول الوقت حتى تقتنع البشرية بأن الحروب والتسعير ضد الآخر قد استنفدا أغراضهما وأوصلاها إلى مرحلة لا يشعر الجميع فيها بالعزلة والإنهاك فحسب، وإنما تنذر بفنائها.