في الدقيقة 53 راوغ سالم الدوسري ثلاثة مدافعين للأرجنتين، وأطلق قذيفة سكنت الزاوية اليسرى لحارس المرمى مسجلاً هدف الفوز، وهدف كسر سلسلة طولها 36 مباراة لعبها منتخب التانجو دون أن يُهزم. في تلك اللحظة تعالت الصيحات والصرخات والهتافات، وأخذت قلوب ملايين المشجعين العرب تدق وتدوي بالفرحة في العواصم والمدن والقرى والنجوع. إنه الشوق للبطولة والأبطال. إنها الحاجة للقوة والقدرة. إنها كرة القدم التي يمكن أن تفعل ذلك، وتجعل الشعوب شعباً، والفرق فريقاً. تلك واحدة من أهم قيم الرياضة وكرة القدم. والطريف أن جماهير البرازيل في قطر أو على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، أخذت تحتفل وتبتهج بهزيمة منافسها اللدود!
قبل المباراة كتب ورسم المحللون والخبراء سيناريوهات ترشح الأرجنتين للفوز، وأن لقاء السعودية سيكون بداية الانطلاق نحو المنافسة على اللقب. حتى المدير الفني ليونيل سكالوني، كان يتحدث في المؤتمر الصحفي قبل اللقاء عن الثقة والهدوء والسلام الذي يشعر به الفريق. لم يكن الرجل يدرك أنه سيواجَه بصقور محلِّقة، تلعب بجرأة وشجاعة، وكفاءة. فليس صحيحاً أن الشجاعة وحدها تكفى للانتصار، فلا بد أن تملك أدوات فنية ومهارات خاصة في هذا المستوى الدولي الرفيع كي تحقق نتائج إيجابية، وقد امتلكها الأخضر.
لعب منتخب السعودية بإرادة، واستمتاع، وبهجة، ومرح، وقوة، ونضال، وشجاعة، وكان من أهم ما امتلكه الفريق، العزيمة وعدم الإحباط عندما تقدم منتخب الأرجنتين مبكراً في الدقيقة 21 من ضربة جزاء، ولعب هيرفي رينارد بتكتيك فيه مغامرة، حين ضغط في الأمام على دفاع الأرجنتين وأجبره على إرسال الكرات الطويلة التي يسهل التعامل معها، وأسقط ميسي ورفاقه في التسلل 7 مرات خلال شوط واحد بينما ارتكب منتخب التانجو في كل مبارياته بكأس العالم في روسيا خطأ التسلل 6 مرات!
المغامرة لم تقف عند الضغط العالي وإنما الانطلاق في موجات هجوم معززة بعدد كبير من اللاعبين، فكنّا نرى خمسة أو ستة صقور داخل عش التانجو. وتقول قواعد الفوز في اللعب والانتصار في الحرب: لا نصر دون شجاعة، ولا نصر دون مغامرة، ولا نصر دون قلوب عندها العزيمة، ولا نصر دون أسلحة تحملها تلك القلوب. كانت خطوط الأخضر متقاربة، والمسافات بين لاعبيه مجرد أمتار قليلة، وفي الخط الخلفي حائط دفاعي رائع يقوده حارس المرمى العملاق الذي ذكّرنا بالدعيع الأسطورة. ولم يكن الدفاع اختياراً عند هيرفي رينارد وإنما الهجوم للعودة، والهجوم للتقدم.
إن فوز السعودية على الأرجنتين دخل تاريخ كرة القدم وتاريخ كأس العالم، كما دخل فوز ألمانيا عل المجر 1954، وكما هزمت أميركا منتخب إنجلترا 1950، وكما لعبت كوريا الشمالية في 1966، وكما تألقت الكاميرون في 1990، وكما تلاعب المنتخب السعودي ببلجيكا وسجل سعيد العويران أحد أجمل أهداف كأس العالم 1994، وكما فازت السنغال 2002على فرنسا حاملة اللقب 2002...
يقول الشعراء أجمل الأبيات ويبالغون ونصدقهم، ويحلم أنصار الفريق بما يريدون، ويصدقون حلمهم، ويصوغ الخبراء ما يريدون من توقعات، ويصدقهم الجميع، إلا كرة القدم. فالملعب وحده لا يحكي خيالاً ولا يعرف سوى الحقيقة، ولا يمكن أن يكذب، ففي اللعبة ومبارياتها دراما لا يمكن أن يصوغها إنسان مهما امتلك من الخيال.
الأخضر أوقف رقصة التانجو... ألف مبروك الانتصار.
8:37 دقيقه
TT
الأخضر يوقف رقصة التانجو
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة