جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا: العودة إلى عام 2010

الطقسُ السياسي اللندني، هذه الأيام، ملبدٌ بضباب كثيف، عتّم الرؤية أمام المعلقين السياسيين على اختلافهم. هناك خوفٌ من العودة إلى تبنّي الحكومة سياسة التقشف، التي صممها وزير المالية الأسبق جورج أوزبورن، بعد عودة المحافظين إلى الحكم عام 2010. السيد أوزبورن كان من أوائل الذين دعاهم وزير المالية الجديد جيريمي هنت إلى مكتبه، عقب تعيينه في الحكومة الجديدة، بغرض الاستفادة من مشورته في الخروج من أزمة العجز المالي.
وهناك قلقٌ من أن ينحو رئيس الحكومة الجديد ريشي سوناك إلى المخاطرة بسمعة حزب المحافظين التاريخية، كونه الحزب المناوئ لرفع الضرائب، باللجوء إلى زيادة الضرائب.
ومن الممكن رصد تذمر يتزايد تدريجياً مؤخراً، مع اقتراب الإعلان عن الميزانية، في صفوف نواب المقاعد الخلفية في حزب المحافظين، من عواقب تسليم مقاليد الأمور، بلا تمحيص أو نقاش، إلى رئيس الحكومة، بأمل إتاحة الفرصة له لإعادة التوازن إلى الدفاتر المالية، واستعادة مصداقية بريطانيا في الأسواق المالية، واستعادة ما فقده الحزب من شعبية بين الناخبين.
لكن الناخبين، بدورهم، وقد وقعوا بين سندان ارتفاع أسعار السلع والمحروقات ومطرقة ارتفاع سعر الفائدة المصرفية، لن يسعدهم ما تظهر به عليهم التقارير الإخبارية، مما يطبخ لهم في مطابخ وزير المالية السيد هنت من سياسات مالية تقشفية، تعِدهم بأسوأ مما عانوه أيام حكومة ديفيد كاميرون ووزير ماليته السيد أوزبورن. ربما لذلك السبب استبقوا الأمور بضربة وقائية تمثلت في لجوء عدة قطاعات خدمية مثل قطاع التمريض وقطاع التعليم والتعليم العالي والمواصلات العامة وغيرها إلى التهديد بالإضراب مطالبين برفع الأجور، في تناسب مع ارتفاع الأسعار.
بعض المعلقين يرى أن هناك تشابهاً ملحوظاً في وضعية الأزمة المالية للحكومة البريطانية في مرحلة ما بعد خروج حزب العمال من السلطة ووصول المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون عام 2010، ومرحلة ما بعد خروج بريطانيا من «بريكست» عام 2016، ويقولون إن الفرق بين المرحلتين هو أن العجز المالي في الأولى كان من سوء تدبير العماليين، في حين أن العجز في مرحلة ما بعد «بريكست» هو من سوء تدبير المحافظين أنفسهم. ومن الأفضل للنواب والكوادر من المحافظين القبول بتجرع محتويات الوصفة، التي يطبخها لهم السيد سوناك مع وزير ماليته، عن طيب خاطر. الحقيقة التي لا يختلف حولها عاقلان هي أن العام 2022 ليس العام 2010.
مرحلة ما بعد «بريكست» أثبتت، حتى الآن، أنه لا يبدو في الأفق القريب ولو طيف صغير لإمكانية تحقيق ما وعدت به من رفاهية، ذلك أن بيانات مصرف إنجلترا المركزي مؤخراً، المتعلقة ببطء النمو الاقتصادي، تؤكد أن بريطانيا قد بدأت فعلياً خطواتها نحو مرحلة الكساد.
«بريكست»، كما يراه البعض من المعلقين، كان رد فعل الناخبين ضد النخبة الحاكمة، وضد سياسات السيد أوزبورن الاقتصادية. ومنذ تحققه عام 2016، سعى رؤساء الحكومات الذين تولوا السلطة إلى إثبات صحة الناخبين في اختيارهم الطلاق من بروكسل. وهذا يفسر رغبة رئيس الحكومة الأسبق بوريس جونسون، في تبنّي سياسة تهدف إلى الارتقاء بمستوى المعيشة في مناطق الشمال الإنجليزية الفقيرة والمهملة، مكافأةً لها على دعمها لـ«بريكست»، واختيارهم التصويت للمحافظين في انتخابات عام 2019. لكنّه لم يكن يعرف كيف يمكن تحقيق ذلك الوعد، خصوصاً بعد سريان قلق بين الناخبين، في الدوائر الانتخابية المعروفة بولائها للمحافظين في الجنوب الإنجليزي، من مغبة إثقالهم بدفع تكاليف تلك السياسة المعلنة من جيوبهم. حلول الوباء الفيروسي، وتداعياته الاقتصادية السيئة، عجّل بوضع تلك السياسة على الرف. والسياسة الاقتصادية التقشفية التي يجري طبخها، على قدم وساق، هذه الأوقات، ستؤدي طبيعياً إلى إقفال ذلك الملف نهائياً، وهذا يعني أن الناخبين، في تلك الدوائر الانتخابية الشمالية الفقيرة، خرجوا من «مولد (بريكست) بلا حمص». ومن المحتمل جداً عودتهم، خلال الانتخابات القادمة، إلى جراب حزب العمال، كما كانوا في السابق.
الجدير بالذكر، أن زعيم حزب العمال السيد كير ستارمر، في حالة وصوله إلى السلطة في الانتخابات القادمة، سيجد نفسه بين نارين؛ نار تبنّي سياسة حزب المحافظين التقشفية الموروثة ونار رفضها وتبنّي سياسة مالية مخالفة، مما يؤدي بالضرورة إلى زعزعة الاقتصاد. ولن يكون من السهل عليه، مهما حاول، الخروج سالماً بسمعته السياسية في الحالتين.