د. ياسر عبد العزيز
TT

زواج شيرين... وأسعار «البرغر النباتي»!

إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون ما يُسمى «وسائل التواصل الاجتماعي» بشكل متقطع، لمعرفة ما يجري في مصر الآن، فربما أنك تعتقد أن البلاد تشهد انتفاضات وأعمال تظاهر واحتجاج بطولها وعرضها. لكن لو حاولت أن تتقصى اهتمامات تلك الوسائط بشكل علمي من خلال مؤشرات موثوقة، لأدركت أن موضوعات مثل عودة المطربة شيرين لطليقها حسام حبيب، وبعض الملاسنات الجارحة في الوسط الرياضي، وقصة شخص تم تقديمه على أنه «عامل نظافة تم طرده من محل كشري»، تحظى باهتمام كبير، وتتصدر «التريندات».
سنترك عالم تلك الوسائط، ونسعى إلى عالم «الإعلام التقليدي»، الذي يُفترض أنه ينتهج مقاربات مؤسسية مدروسة في عمله، وسنجد أن الإعلام المحلي في مصر يركز بوضوح على مؤتمر «كوب 27»، والزخم الدولي الذي يحظى به، و«الاختراق» الذي حققته الحكومة المصرية خلاله.
لكن وسائل الإعلام «التقليدية» الغربية، التي تحظى باهتمام كبير في العالم العربي عموماً ومصر خصوصاً، تتناول هذا المؤتمر الأممي المُهم من منظور آخر، وهو منظور ربما يختزله في قضية سجين مصري واحد اسمه علاء عبد الفتاح، مع بعض التغطيات الأخرى ذات الطبيعة الجادة، التي تتناول مستجدات المؤتمر، وكلمات أبرز القادة الحاضرين، ومواقف لافتة لهم.
وعلى سبيل المثال، ففي مواكبة وصول الرئيس جو بايدن إلى شرم الشيخ، للمشاركة في أعمال قمة «كوب 27»، ركزت إحدى وسائل الإعلام الغربية المرموقة تغطياتها لما يحدث في مصر، من خلال شبكة أعمالها النافذة، على قصتين رئيستين: أولاهما كان عنوانها «ملف حقوق الإنسان يخيم على لقاء بايدن بالسيسي»، وثانيتهما كانت تصف «معاناة» المشاركين في القمة بسبب نقص «ورق التواليت» في الحمامات وارتفاع أسعار «البرغر النباتي»، فضلاً عن تسرب حدث في إحدى مواسير الصرف، ما خلّف تجمعات للمياه بجوار أحد الأرصفة!
من جانبي، ولأن الظروف مكّنتني من أن أكون «في موضع الحدث»، كما هو التعبير الشائع، يمكنني أن أؤكد أن تلك المقاربات الإعلامية لم تكن موضوعية أو نزيهة أو جادة بما يكفي. وأنها تحالفت، للأسف الشديد، لكي تحرف اتجاهات الجمهور عما يجري في الواقع.
يحدث تواطؤ غريب بين أقنية الإعلام «الجديد» و«التقليدي» في هذه الآونة ضد «الحقيقة»، وبمفهوم أكثر تحديداً؛ فإن اختيارات الموضوعات في عديد الوسائل تتم لاعتبارات سياسية، ويتم تناولها عادة من مناظير مُنحرفة، لخدمة مصالح محددة.
وسيكون من السهل توجيه سهام النقد اللاذع لـ«السوشيال ميديا» بطبيعة الحال، لأنها لم تتوانَ أبداً عن خداعنا فيما يخص ترتيبها للأولويات. ولأن تلك الوسائط أضحت مجالاً خصباً لفعل «اللجان الإلكترونية» التابعة لجماعات المصالح، فإن التعامل مع قطاع كبير من منشوراتها باعتباره «دعاية»، أو «دعاية سوداء» خالصة، لن يكون عملاً خاطئاً.
لكن الإشكال الكبير يكمن في الصورة التي بات عليها قطاع كبير من تغطيات وسائل الإعلام «المؤسّسية»، وسواءً كانت تلك الوسائل محلية تنشط في إحدى دول العالم الثالث، أو تأتي من الغرب المتقدم و«الحريص على قيم الدقة والتوازن والنزاهة والإنصاف والحرية»، فإن المحصلة حتى الآن مُخزية، ويبدو أن الغالبية في الجانبين لم تعد تخجل من الغرق في الخطل.
لم تحدث مظاهرات واحتجاجات في مصر. ولم تظهر أي بادرة تسوغ قدراً يسيراً من هذا الزخم الضاري الذي يعصف بجنبات حسابات «التواصل الاجتماعي». وبخصوص «كوب 27»، فإن فعالياته تمضي بانتظام وبحصيلة موضوعية جيدة، ستصنع فارقاً مُعتبراً في مقاربة قضايا المناخ وتحدياته.
أما الأولويات التي تعكسها التفاعلات الجارية على تلك الوسائط، فتتوزع بين مزيج من القضايا «الخفيفة» و«الدعاية الفجة»، وهذان اللفظان تحديداً يعكسان محاولة لوصف التفاهة والاصطناع بشكل لائق.
ستكون وسائل الإعلام «المؤسّسية» العاملة في بلدان العالم الثالث مُطالبة بجهد أكبر نحو الخروج من عباءة الدعاية للنظم السياسية، ومحاولة انتقاء الموضوعات التي تتصدى لتغطيتها بشكل أكثر مهنية وتوازناً، وتفادي الإغراق في المخاوف، التي قد تؤدي إلى حرفها عن المقاربة الموضوعية اللازمة للحصول على ثقة الجمهور واحترامه.
أما بعض وسائل الإعلام الغربية التي تورطت في تغطيات سيئة ومُنحرفة لما يحدث على الأرض في شرم الشيخ أو القاهرة أو غيرها من بؤر الأهمية الإخبارية، فوضعها أصعب؛ إذ إنها في حاجة ماسة إلى تسويغ ذلك الانحراف عما ادعته لنفسها - وصدقناه على مدى عقود طويلة - من مهنية ونزاهة وموضوعية وحياد.
والعزاء واجب، في كل الأحوال وعلى كل الأقنية، للجمهور، الذي تتخاطفه تلك الممارسات الإعلامية لمصلحة أجنداتها المتصارعة، فيبقى مرتبكاً ومتخبطاً، عوضاً عن أن تبقيه في النور.