عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.
TT

خرائط البطون الرخوة

بولندا كانت القداحة التي أشعلت الحرب العالمية الثانية. بعد سبعة وسبعين عاماً من نهاية تلك الحرب. طبول النار تقرع ذاتها، بالأصابع الحديدية نفسها. لكل زمن هتلره الفوهرر، وموسيلينه الدوتشي. قد تختلف ألوان الملابس، وأدرع التحيات، لكن ما في الرؤوس، ديالكتيك يعيد إنتاج المتفجرات، وخطوات بطة الزعامة العنيفة.
عندما أعلن هتلر في البرلمان الألماني، أن بلاده لن تطالب بأراض أخرى بعد اتفاق التهدئة مع فرنسا وبريطانيا بحضور الدوتشي موسوليني. عاد تشمبرلين رئيس الوزراء البريطاني إلى لندن، رافعا قبعته المستديرة، محييا مستقبليه وباعثاً برسالة إلى الشعب البريطاني يبشرهم بمستقبل السلام. هتلر قضم جزءا من جمهورية التشيك، وسكتت أوروبا وبادلته الأنخاب، لكنه قرر ابتلاع غدانسك البولندية، بالحجَّة ذاتها التي كانت الجسر المتمدد الذي يدفع فوقه قواته، وهو وجود شعب ألماني مضطهد في تلك الأقاليم التي تقع في بلدان أخرى. تقدمت قوات هتلر إلى بولندا بعدما وقع اتفاقية عدم اعتداء مع ستالين، وعلى تقاسم أراضي دولة بولندا. كانت هذه الأرض هي البطن الأوروبي الرخو الذي جعل البشرية تدفع قرابة ستين مليون ضحية في حرب ضربت الكرة الأرضية كلها.
اليوم تهز بولندا صرَّة أوروبا، الأرض والذاكرة الإنسانية، وتحرك الأسلحة، وتلد الأزمات المالية وأزمة الطاقة، وتدق أجراس الحرب التي لن تكون العالمية الثالثة، بل ستكون حربا دون رقم.
أوكرانيا التي تدور اليوم فوق أرضها أكبر وأبشع حرب شهدها العالم منذ قرابة سبع وسبعين سنة، ليست هي بيت النار، وإنما بولندا التي تشكل البرزخ الرخو بين فضاءين، الشرق والغرب.
في الحرب العالمية الثانية، زار رئيس الوزراء البريطاني تشرشل موقع العلمين بمصر حيث تتواجه قوات الحلفاء، وهي بريطانيا، مع قوات المحور وهي إيطاليا وألمانيا. قال ونستون تشرشل للماريشال مونتيغمري قائد القوات البريطانية: أريد ليبيا، وكرر الجملة بإلحاح عدة مرات. سأله مونتيغمري: لماذا تلح على الاستيلاء على ليبيا يا سيدي الرئيس؟ أجابه تشرشل: لأن ليبيا هي البطن الرخو للتمساح الأوروبي. بعد هزيمة قوات الجنرال رومل ثعلب الصحراء في العلمين، اندفعت القوات البريطانية من دون توقف حتى تونس. قال تشرشل رئيس الوزراء البريطاني بعد ذلك: لم ننتصر قبل العلمين ولم ننهزم بعدها. كان هتلر يريد السيطرة على قناة السويس المصرية، شريان الوقود والمال لبريطانيا، في حين أراد تشرشل ليبيا البطن الرخو الذي يمتد لمسافة ألف وسبعمائة وخمسين كيلو متراً أسفل ظهر التمساح الأوروبي الصلب.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هدفه الاستراتيجي بولندا وليس أوكرانيا، ليس بالضرورة الاستيلاء على أرضها، ولكن السيطرة على بطن أوروبا الرخو. لقد شهدت أوكرانيا أكبر المعارك دموية بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، لكن الانكسار الألماني بدأ في بولندا.
انهيار المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية تأكد بعد حدثين مهمين هما؛ انهيار جدار برلين في ألمانيا، وانهيار الحزب الشيوعي في بولندا. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان شاهد عين وأذن وعقل على الحدثين. زعيم تأسس في كيان عظيم له سطوة وقوة محلية ودولية عابرة لحدود أرض روسيا الأم، ورآها تتآكل وتغادر حلبة القرار والفعل الدوليين. عمل مع بوريس يلتسن الرئيس الذي تولى زمام القيادة في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. كظم غيظه وهو يشهد الهوان السياسي الذي آل إليه وطنه الذي باد بعد أن ساد. صمت حتى تمكن من الجلوس على كرسي القرار في الكرملين. بوتين هو السياسي والعسكري والأمني. وضع سياسة (قفزة الضفدعة). تدخل في جورجيا ونجح في تحقيق هدفه، من دون أن يواجه رداً حاسماً من القوى الغربية. قضم إقليم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وكان الرد الدولي والغربي شفهيا عبر بيانات شجب ورفض لا أكثر. طور بوتين سياسته إلى تكتيك (قشرات البصلة) في أوكرانيا. أسالت القشرة الثانية من البصلة، الدموع الروسية دماً وقتلى وعقوبات غربية ثقيلة.
أوكرانيا هي معركة العلمين الثانية في حرب ليست فوق الرمال، لكنها على بطن سياسية رخو، بها نتوءات طويلة حادة عابرة للأرض والرؤوس.
الحرب العالمية الأولى، أنهت إمبراطوريات وخلقت دولا، أما الحرب العالمية الثانية فقد أسست عالما جديدا. تغيرت فيه الأسلحة والتكتلات والقوى الاقتصادية، وكذلك الأرض والناس. هناك كثير من الحقائق المضافة اليوم تفعل فعلها على أرض العالم.
الصين هي المدرسة التي أزالت سورها الصخري الطويل، وصارت المصنع والسوق الكبرى في العالم. أبدعت قوة من نوع جديد. قوة اقتصادية ناعمة، تسري في مفاصل الحياة البشرية بكل أصقاع الأرض، ترافقها قوة عسكرية رادعة، ترعب القريب والبعيد. سيكون لها القلم الضارب، الذي يرسم خطوط الطول والعرض فوق خريطة الزمن الدولي الجديد. طريق الحرير الصينية البرية والبحرية العالمية، ستكون السور الصيني العالمي الحريري، تحرسه قوة تبدع نفسها كل يوم دون توقف.
ما هي الأصقاع التي ستكون البطون الرخوة الجديدة؟ القوة الصينية هي من سيمتلك المسبار الذي يقيس ويحدد مدى صلابة بطون الأرض وظهورها، والأقدام القادرة على عبورها اقتحاماً أو تسرباً ناعماً.
العقلية الشوفينية الفردية عندما تحكم، تحقن أوطانها بسائل الوهن، فتحيل الأرض والرؤوس إلى تراب وبطون رخوة، وتصير الجغرافيا السياسية، الطابور الخامس أو حتى الخمسين الذي يغرس أزاميل الوهن في الأوطان. لماذا الصين؟
الأسود تركض طويلا خلف طرائدها، فتصطادها بعد أن تُرهق. تأتي الضباع وتخطف جثة الفريسة، وتركض بها بعيدا، وتكتفي الأسود المتعبة بالنظر والحسرة.
اليوم الجميع مرهق جراء الحرب الدائرة في وحول البطون الرخوة عسكريا واقتصاديا. أما الصين فهى الجَسور الحكيم، الذي سيفوز باللذة.