د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

حوكمة التعليم في دوائر الآيديولوجيا الثلاث

السياسة، والعلم، والفن، ثلاث منظومات عقلانية كبرى أنتجتها الحضارة الإنسانية، إن تسللت إليها الآيديولوجيا أفسدتها، وإن هي أقحمت نفسها في الآيديولوجيا أفسدتها. وفي هذا السياق تلعب مؤسسات التعليم - باعتبارها من أهم روافد تشكيل الوعي الفردي - دوراً كبيراً في تعزيز أو فض هذا الاشتباك الآيديولوجي مع تلك المنظومات الإنسانية الثلاث، نظراً لما تمتلكه من موارد وإمكانيات مؤسساتية هائلة تستطيع بواسطتها تشكيل البنية الذهنية والشخصية للطالب منذ الطفولة، وتحديد موقفه الإدراكي من الدولة أو الممارسة السياسة، والعلم، والفن.
وقد قطعت القيادة السابقة لوزارة التعليم شوطاً لا يستهان به في تفكيك سلطة الموروث الفكري المناهض للعلم والفن والسياسة الوطنية، وقيم المشترك الإنساني للمعمورة، واتخاذ قرارات جريئة وشجاعة حدت من الإرهاب الآيديولوجي الذي كان يُشكل تهديداً مستمراً لكل نيات وعمليات إصلاح المناهج والضبط المؤسسي للوزارة. فمنذ عقود طويلة كان التعليم في السعودية يعيش خارج التاريخ محتضراً في كهوف الظلام بسبب الخوف من مشهد الاستجابات العنيفة، قولاً أو فعلاً، للجماعات المتشددة والمتزمتة التي أجهضت جميع مبادرات إصلاح التعليم التي تمس هذه المجالات الفكرية الثلاث، الأمر الذي أدى إلى تأخر مخرجات التعليم لمواكبة سوق العمل، واللحاق بالأمم المتقدمة في مجالات الإبداع الفكري والإنتاج العلمي.
ولا يمكن الإنكار بأن الخوف من ردود الفعل حيال تغيير النماذج المعرفية القديمة في الصروح العلمية قد أسهم في إحداث تناقضات حادة بين مخرجات التعليم التقليدي والمدخلات الحديثة لديناميكيات اقتصاد ما بعد النفط في السعودية، وفق «رؤية 2030»، التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل القومي، والاندماج مع الهياكل المؤسسية الدولية المتحكمة في الاقتصاد العالمي، والتكيف البنيوي مع متطلبات الاستثمار الأجنبي، وجذب السياحة الخارجية، والانفتاح على القيم الثقافية والإنسانية الكونية، لا سيما أن السعودية غدت عضواً فاعلاً ومؤثراً في مجموعة العشرين، وبالتالي يُنظر إلى قدرتها على الالتزام بمعايير الحوكمة العقلانية والرشيدة، والاضطلاع بمسؤولياتها الدولية والاستراتيجية في المجتمع الدولي. وهذا الطموح القومي في التحول الاستراتيجي من الاقتصاد الريعي نحو اقتصاد منتج متنامٍ ومستدام، وتحقيق الانسجام بين مخرجات التعليم ومدخلات سوق ما بعد الدولة الأبوية كان مشروطاً بتغيير البنية الذهنية عند الطلاب فيما يتعلق بتصوراتهم المفاهيمية نحو المنظومات المعرفية للسياسة والعلم والفن. وفي هذا السياق يمكن القول بأن القيادة الوزارية السابقة وضعت مؤسسة التعليم بالصفوف الأمامية في عربة التاريخ، ومن المأمول بأن القيادة الوزارية اللاحقة ستستمر في قيادة تلك العربة إلى آفاق تحديثية أوسع في بنية المنظومات الثلاث وبما يتسق مع استراتيجيات حوكمة التعليم. وسوف يسلط المقال الضوء على بعض ملامح التطوير في بنية المجالات المعرفية الثلاث التي من المتوقع أن تستمر وتتطور مع الإدارة الحالية.
فعلى صعيد المنظومة المعرفية للعلوم السياسية، قطعت الوزارة شوطاً لا يستهان به من حيث تأكيدها على تعريف السياسة بأنها علم الدولة، وبالتالي النظر إلى الدولة بوصفها كأي جهاز إداري آخر، لا مذهب عقائدياً لها، تحكمها العمليات البيروقراطية العقلانية المحايدة في الصراع الاجتماعي التي تهدف إلى تحقيق المنفعة العامة لجميع المواطنين بدون النظر إلى أديانهم، ومذاهبهم، وثقافاتهم، ومراكزهم الاجتماعية. فالعبرة هنا في دين الفرد لا تدين الدولة، ويوم القيامة سيجازي الله (الفرد) الأميركي، والأوروبي، والصيني، والمسلم بالجنة أو النار. وعلى النقيض من الفرد المسؤول بشكل أحادي أمام الله، فالدولة، على خلاف الفرد، تظل كياناً معنوياً مجرداً، تعبر عن الكل الجمعي والإرادة العامة، وبالتالي محال على صعيد التصور العقلي والمنطقي أن تخضع لمثل هذا الحساب الإلهي، إذ لن يعاقب الله الدولة الأميركية والصينية، كمؤسسات مجردة وغير حسية، بالنار، في حين أن الدول الإسلامية سيدخلها الجنة. ولمنع هذا التشوش والارتباك الذهني عند الطالب في النظرة الموضوعية إلى البنية الإدارية للدولة، اهتمت المناهج الجديدة بالأطر النظرية لمفهومي الدولة القُطرية والهوية الوطنية. وبالتالي حُذِفت كل الأفكار والتصورات الآيديولوجية التي كانت تدحض من مفهوم الدولة الوطنية وتؤدي إلى تذويب سياسات الدولة ومصالحها القومية في بوتقة الأفكار الأممية، أو تُقزم من مفهوم الهوية الوطنية وجعلها رديفاً لهويات عقائدية أعلى منها وتسمو عليها. كما تم شطب كل الاتجاهات الفكرية التي كانت تشجع على الولاء لمبادئ ميتافزيقية متجاوزة المرجعية الأخلاقية للدولة الوطنية، أو الانتماء إلى رموز وجماعات دينية عابرة لسياسات الدولة القومية أو تعارض مصالحها العامة. بل ذهب إصلاح المناهج إلى أبعد من ذلك بإبطال التصورات التي تقدح، صراحة أو ضمناً، في قيم الوحدة الوطنية، والتشنيع الآيديولوجي على معتقدات الآخر المخالف في التصور والأنساق المعرفية والمذهبية، وإلغاء النصوص التي تطعن وتلمز من وتشكك في شرعية شبكة المصالح والمنظمات الدولية التي تربط المملكة مع العالم. والمراقب للشق السياسي في عملية تطوير برامج وخطط التعليم سيلحظ أيضاً التوازن المنهجي الذي حافظ على الخصوصية الثقافية للمملكة، وفي الوقت ذاته الاندماج مع متطلبات الكونية المفاهيمية التي تمزج الأنساق والبنى الثقافية المحلية مع المشترك الإنساني المجرد، والخاص بالعام، والمتفرد مع المتماثل، بدلاً من نماذج القطيعة مع الآخر، والتشرنق حول مركزية الذات الثقافية والأنا المحلية. وأخيراً تُوجت عملية إصلاح التعليم في تخليص السياسة من براثن سطوة الحركات الآيديولوجية عبر القضاء على كل الأنشطة اللاصفية والدورات الصيفية التي كانت تتبنى مشاريع وبرامج طلابية تخدم أجندات حزبية ضيقة وتخرج عن أهداف السياسات العامة للدولة.
ورغم أهمية نفض غبار الآيديولوجيا عن المفاهيم النظرية للعلوم السياسية، إلا أنني أعتقد بأن الإنجاز التاريخي الأعظم والأكثر أهمية لوزارة التعليم التي ستنقشها الأجيال المتعاقبة بسطور من ذهب في ذاكرة المستقبل، تجلى بشكل واضح على صعيد المنظومة العقلانية للعلم والتفكير المنهجي المنظم. فالقطعية التي أحدثتها مناهج التعليم الحالي مع الموروث الآيديولوجي اللاعقلاني الذي حرم المنطق والفلسفة والتفكير النقدي وتعليم اللغة الإنجليزية في المستويات الدنيا بالمدارس، والذي حَظر تدريس مهارات توظيف أدوات الاستدلال العقلي في دحض الحجج والبراهين المضادة كانت من الإنجازات التاريخية غير المسبوقة لوزارة التعليم. ففي العقود الماضية كانت منهجية التفكير عند الطالب تعيد بشكل تلقائي إنتاج الأفكار المتوارثة جيلاً بعد جيل بدون تدبر أو بصيرة أو تحليل نقدي لكل ما اكتسبوه من معارف وأفكار مدرسية أنتجتها آليات التلقين الشفهي في المدارس. وبسبب غياب هذا التفكير النقدي، وتعلم مهارات استخدام الأدوات المنطقية في تحليل الظواهر الإنسانية، فقد كانت المخرجات النهائية لأفكار الطلاب لا تعبر عن آرائهم وتفسيراتهم الذاتية الناتجة من حواراتهم وتساؤلاتهم الخاصة، ولا تُمثل وعيهم النقدي، وخبراتهم الشخصية بقدر ما كانت تعيد إنتاج الأفكار والتصورات السائدة عند المعلم أو تستلهم رواسب النموذج المعرفي المهيمن. ولذلك كان وعي الطالب يطفح بالمغالطات المنطقية وفساد آليات الاستدلال العلمي. ومن هنا فإن التحول في منهجية التفكير عند الطلاب من اليقين المعرفي إلى الشك المنظم، والاسترشاد بالنماذج النقدية للمعرفة ستشجعهم إلى إخضاع نتائج أبحاثهم واستدلالاتهم الفكرية للمعايير المنطقية المجردة للصواب والخطأ، وفق قواعد ومقاربات العلم الحديث الذي يرتكز على مبدأ الشك المنظم، والتجريد، والملاحظة الأمبريقية، والتجربة، والعمومية، والقابلية للتكذيب بدلاً من التسليم النهائي للنص التاريخي باعتباره حقيقة مطلقة عابرة للزمان والمكان. ومن هذا المنطلق فإن إقرار كتب التفكير الناقد، وقواعد المنطق، والأطروحات الفلسفية، وتعليم اللغة الإنجليزية للأطفال، ودمج المقررات الدينية في مادة واحدة، وتأسيس المسارات والتخصصات الأكاديمية المبكرة في التعليم العام، كانت كلها علامة فارقة في التحول التاريخي للمعرفة العلمية في السعودية، التي ستنطوي على إمكانات عالية واحتمالات واسعة في دمج مخرجات التعليم مع حاجات سوق العمل، ومتطلبات الاستثمار الأجنبي، وتنسجم مع شروط الأكاديميات الغربية العريقة التي تجمعنا بهم لغة وقواعد المنطق والمناهج العلمية المجردة وليس أطر وتصورات الثقافة المحلية والضيقة. فالعلم ومناهجه الاستدلالية لا دين لهما، والتفاحة التي سقطت على نيوتن ستسقط حتماً وبالضرورة في أي مكان وزمان في هذا العالم بغض النظر عن الثقافة والدين والمذهب الذي ينتمي إليه المجتمع. كما أن نظريات علم الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات والعلوم الإنسانية تخضع كلها لمناهج علمية محايدة، مصدرها العقل والحواس البشرية النسبية المتجاوزة لكل المفاهيم والقيم المطلقة في التراث الثقافي والتاريخي لكل المجتمعات الإنسانية.
وعلى غرار العلم المتجاوز للأديان والآيديولوجيا، فكل ينابيع الفن تصب في وادٍ تراث إنساني مشترك. فقد يستمتع المسلم الشرقي بفنون الهندسة والمعمار والرسومات والموسيقى الغربية، وبالمقابل قد تأسر صور متنوعة من الموسيقى والنقوش والآثار الإسلامية عقل ووجدان الفرد الغربي غير المسلم، وقد يدرس كطالب غربي التراث الشرقي والإسلامي في جامعاته ومدارسه ومعاهده. ولذلك فإقرار وزارة التعليم لتدريس الفن هو بداية الانطلاق إلى مواكبة الحضارة الإنسانية. فالفن بكل صوره ونماذجه يظل هو التعبير الأكثر رمزية للقفزة الحضارية للإنسان وانتقاله من الجدران الضيقة للكهوف إلى رحاب المدن الشاسعة، وفضاءات الكون الواسعة. ولولا قدرة العقل البشري على الخيال والفن لبقي الإنسان المعاصر حبيس الكهوف القديمة. بل إن الرموز الفنية هي من دلائل خروج الإنسان من الخضوع لإرادة وسطوة الطبيعة إلى فهم ديناميكيات قوانينها ونواميسها الأزلية، وبالتالي السيطرة على حركتها والتنبؤ بمساراتها الحتمية. وقد كان المشهد الجدلي المتناقض للفضاء الاجتماعي والفكري في السعودية مثيراً للتندر عندما كان معظم أفراد المجتمع يستمتعون بالاستماع أو مشاهدة صور متنوعة من الفن البصري والسمعي من كل مكان في العالم، في الوقت الذي يتباهى فيه بعض رموز الجماعات المتزمتة بتحطيم أدواته ويداهمون أو يحرقون مستودعاته ومقراته في مشهد درامي مثير للضحك والبكاء معاً.
وفي حقيقة الأمر، فقد أسهمت أدلجة مناهج التعليم بإنتاج هذا الشكل من الازدواجية بين التفكير والسلوك، التي انعكست بشكل ملحوظ في التناقض في بنية شخصية الطالب وطريقة تفكيره، حيث كان يرفض نظرياً ويُحرم عقائدياً، الاستمتاع بمباهج وملذات الفن والحياة، ولكنه يمارسها عملياً في كل تفاصيل ومظاهر حياته اليومية.
صفوة القول في كل ذلك أن استكمال ما بدأت به الوزارة السابقة من تطوير لهذه المنظومات الثلاث (السياسة، والعلم، والفن) وتحريرها من التبعية والسلطة الآيديولوجية التي كانت مهيمنة على النماذج المعرفية في مناهج التعليم العام يُعد مطلباً ضرورياً وجوهرياً لنجاح القيادة الوزارية الحالية في حوكمة التعليم وسياساتها المرتبطة بالشفافية والرقابة والمسؤولية والمحاسبة وكفاءة أداء الفاعلين، ولأن تغيير الذهنية المعرفية للطالب شرطٌ أساسيٌّ لعملية التوفيق بين مخرجات التعليم ومدخلات سوق ما بعد النفط وتحقيق التنمية الاقتصادية والإنسانية وفق استراتيجيات «رؤية 2030»، ولا يقتصر هذا الأمر على التعليم العام، بل يمتد إلى مجالات التعليم الجامعي، وهو ما سنناقشه لاحقاً... وللحديث بقية.