سليمان الحربش
TT

كثر الحديث عن «أوفيد»

«أوفيد» هو الاسم المختصر لـ«صندوق أوبك للتنمية الدولية» في فيينا. والاسم جزء من حملة إعلامية أمر بها الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، في توجيهٍ صدر منه لوزيرَي البترول والمالية، في سياق موافقته على ترشيح المملكة العربية السعودية لي في عام 2003 مديراً عاماً للصندوق، وازداد رسوخاً بعد أن أشار إليه بهذا الاسم بيان الملوك والرؤساء الصادر من قمة «أوبك» الثالثة التي استضافتها المملكة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، ثم أعاده الأمير عبد العزيز بن سلمان إلى دائرة الضوء بهذا الاسم، وهو يجيب عن سؤال عن فقر الطاقة خلال مؤتمره الصحافي الأخير في فيينا.
ولدت فكرة «صندوق أوبك» أو «أوفيد» خلال القمة الأولى لمنظمة «أوبك» في مطلع عام 1975، ثم صودق على قيامه في الثامن والعشرين من يناير (كانون الثاني) 1976. وتملك حكومة المملكة العربية السعودية ما يقرب من 34 في المائة, من رأس ماله، وهي بذلك أكبر المساهمين في موارد الصندوق.
توضح ديباجة النظام الأساسي الدوافع السياسية من إنشائه، وأنه مُلك للدول الأعضاء في منظمة «أوبك»، ولا سلطان للمنظمة عليه. وتُفصِح المادة الثانية عن الغرض التنموي للصندوق وما تكنه الدول الأعضاء في «أوبك» لرصيفاتها من الدول النامية، من مشاعر صادقة، بصرف النظر عن اللون أو الدين أو الإقليم.
وتوضح المادة الثالثة بفقرتيها الدول المستفيدة من نشاط الصندوق، وهي الدول النامية، وتؤكد على منح أهمية خاصة للدول محدودة الدخل ضمن الدول المستفيدة.
من خلال الحملات الإعلامية، عرف العالم هذا الصندوق وما يحمله من رسالة نبيلة، وترسخت صورته في الدوائر التنموية، بعد أن تبنى شعار القضاء على فقر الطاقة وحوّله إلى خطة عمل، طبقاً لما تلقاه من توجيه من قمة «أوبك» الثالثة، ولما أدّاه من دور في نشر أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، ومن بينها الهدف السابع، وهو «الطاقة للجميع» بعد أن أغفلته الأمم المتحدة في أهداف الألفية عام 2000.
من أهم ما حظي به «أوفيد» خلال مسيرته الحافلة، هو الثقة التي أولته إياها الدول الأعضاء، تمثل هذا في عدة مواقف، أبرزها الموافقة في عام 2011 على دعم موارده بمبلغ مليار دولار بما عرف بالتغذية الرابعة، وأهمية هذا القرار تكمن في ثلاثة مظاهر:
الأول: أنه أول دعم تقدمه الدول الأعضاء بعد المساهمات الثلاث التي صاحبت إنشاء الصندوق في بداية الثمانينات.
الثاني: أن هذا المبلغ أتى على الرغم من أن الأزمة المالية كانت ما زالت ترخي سدولها على العالم.
الثالث: أن هذا المليار هو العامل الرئيسي الذي انطلقت منه الإدارة الحالية للحصول على تصنيف من مؤسسات التصنيف العالمية.
إذن لماذا يكثر الحديث في فيينا هذه الأيام عن هذا الصندوق، مع ما يحمله من رسالة نبيلة؟
أولاً: يتساءل المتابعون في فيينا -وعلى رأسهم سفارات الدول النامية التي أنشئ الصندوق من أجلها- عما إذا كان «أوفيد» قد تخلى عما ورد في نظامه الأساسي، وعلى وجه التحديد إعطاء أهمية خاصة للدول محدودة الدخل، ويقولون إن تمويلات الصندوق كانت في الماضي قسمة بين الدول النامية ذات الدخل المتوسط والدول ذات الدخل المحدود؛ لكن الوضع قد تغير أو في طريقه للتغيير، ويستشهدون على ذلك بما ورد في التقرير السنوي للعام الماضي الذي يوضح (ص 24) أنّ عمليات الصندوق مالت بشكل واضح نحو الدول ذات الدخل المتوسط، وهي دول لا تجد صعوبة في الحصول على قروض سهلة من صناديق التنمية الأخرى أو مؤسسات التمويل بشكل أعم.
ثانياً: هل تغير أسلوب العمل بالصندوق، بحيث أصبح ما تحصل عليه الدول الفقيرة من قروض مصدره عائدات القروض التي تعود للصندوق من قروضه للدول متوسطة الدخل؟ أليس ما يخصص للدول الفقيرة من خلال برامج الإقراض مستقلاً عما يخصص للدول متوسطة الدخل؟ ألم تكن برامج الإقراض قسمة بين الفئتين؟
ثالثاً: هل التصنيف العالي للصندوق من المؤسسات المختصة هدف في حد ذاته؟ بل هل التصنيف العالي سبب في جنوح الصندوق عن هدفه الأساسي؟ أيهما يسبق الآخر: التصنيف العالي أم التمسك برسالة الصندوق النبيلة، وهي مكافحة الفقر؟ ثم ألا يمكن الاقتراض حتى مع تصنيف أقل؟ هل للتصنيف العالي كل هذه الأولوية؟ وهل هناك مشكلة سيولة؟ أليست موارد الصندوق تتعدى سبعة مليارات دولار لم تخسر إدارة الصندوق فيها مليماً واحداً؟ ثم أين تكمن المخاطر: هل هي في متأخرات الدول الشريكة أم الدول الأعضاء؟ وأيهما أعلى عند نشر هذا المقال؟
خلال الأعوام الماضية، ومنذ 2020، والإدارة الجديدة تعمل جاهدة لتمهيد الطريق نحو الاقتراض من السوق المالية، تنفيذاً لقرار المجلس الوزاري لعام 2007. والسؤال هو: أليس الهدف من الاقتراض هو تعزيز موارد الصندوق لتمكينه من أداء مهمته الأساسية، وهي مساعدة الدول الفقيرة؟ وهنا أتحدث بصفتي أحد شهود الإثبات. لماذا أصبح الحصول على تصنيف عالٍ وسيلة أو مدخلاً للخروج عن هدف الصندوق الأساسي؟
هل المجلس الوزاري هو الذي قرر ذلك؟ ومتى؟ أم أنه اجتهاد من مجلس المحافظين؟ وهل يحظى ما يمر به الصندوق من تغييرات بالحصانة الدستورية؟ أم أنه تمهيد لنظام جديد تتضح معالمه في دورة قادمة استثنائية تحددت في الثالث من نوفمبر؟
رابعاً: هل الصندوق ما زال قِبلة من يبحث عن عمل في منظمة دولية مرموقة؟
الحديث يدور حول أن «أوفيد» لم يعد يحظى بتلك الجاذبية، وأن من انضموا إليه خلال السنوات الثلاث الماضية بدأوا يتسربون لأسباب، منها تخلي الصندوق عن بعض الامتيازات، مثل البطاقة الدبلوماسية وما ترتبه من حوافز.
الذي يهمني في هذا السرد هو أن الأثر السلبي لإلغاء بعض الامتيازات سيقع على دول الخليج العربية، وبالذات المملكة العربية السعودية. نحن في المملكة نمر بمرحلة غير مسبوقة من توفر فرص وظيفية، تجعل المواطن السعودي الذي يحمل شهادة تؤهله للعمل خارج الحدود يتردد في البحث عن وظيفة في «أوفيد» ما لم تتوفر فيها مزايا تغريه بمغادرة بلده. وهذا موقف لا تعانيه دول مثل إيران أو إندونيسيا أو نيجيريا، وهو يعني بكل وضوح أن انحسار حوافز التوظيف يحابي مواطني دولة حصتها في رأس مال الصندوق أقل من نصف 1 في المائة، على حساب دولة تملك أكثر من ثلث رأس المال، وهي المملكة (انظر جدول توزيع أنصبة رأس المال المدفوعة في التقرير السنوي للعام الماضي)، وعلينا أن نتنبه لهذا الجانب إذا ما كنا ننادي بتوظيف السعوديين في المنظمات الدولية.
خامساً: استمراراً للنقطة السابقة، فإن المادة 5.09 من النظام الأساسي تعطي الصلاحية للمدير العام فيما يتعلق بالتوظيف، مع قصر الوظائف العليا على الدول الأعضاء؛ لكن شطب بعض الامتيازات أدى إلى تدفق العمالة من غير الدول الأعضاء. والخاسر فيها هي دول الخليج العربية، وعلى الأخص المملكة. ومع ذلك أرجو ألا يمس أي تعديل لهذه المادة تخصيص الوظائف العليا للدول الأعضاء.
سادساً: من المهم العودة لاستئناف النشاط الإعلامي، وأخذ زمام المبادرة والتصدي لكل ما ينشر عن «أوفيد» بغثه وسمينه؛ خصوصاً إذا ظهر في مجلة تجمع الأوساط الدبلوماسية في فيينا على مكانتها الإعلامية. وكم أتمنى أن يسبق ذلك تنظيم دورات تثقيفية لمنسوبي الصندوق للتعريف بأهداف الصندوق، وهل ما زالت تخاطب الظروف التي أنشأتها، والفرق بين الصندوق والبنوك التجارية. وحبذا لو صاحب ذلك دورات لمنسوبي الصندوق هدفها تعميق روح الانتماء لأسرة واحدة، وإعادة العمل بروح الحوار بينهم؛ إذ إن العمل من وراء الحواجز والكاميرات الخفية والمرئية لا يليق بمؤسسة تتحمل فيها المملكة العبء الأكبر في مكافحة أكبر عدو للإنسانية، وهو الفقر. لا يكفي أن يتولى شؤون الصندوق (بصرف النظر عن الجنسية) أفراد كل ما لديهم من مؤهلات هو الشهادة العلمية، فالموضوع أهم وأعمق من هذا.
الصندوق جسر دبلوماسي بين الدول الأعضاء وبقية الدول النامية التي تستأثر في المستقبل - وهذه ملاحظة عابرة - بمعظم الزيادة في الطلب العالمي على البترول خلال الفترة الانتقالية التي تمر بها السوق. العلاقة إذن مع هذه الدول علاقة شراكة ومصير.
أرجو أن يتصدى المجلس في دورته الطارئة لهذه القضايا التي أنشئ من أجلها الصندوق، وهو حري بتصحيح مسارها، وأرجو ألا تطغى الوسيلة على الهدف... وللحديث بقايا.