على الرغم من أن الانتفاضة الشعبية في إيران والحرب في أوكرانيا هما حدثان من طبيعتين مختلفتين، لكنهما متشابكان بمقاربات لافتة وتحكمهما وجوه كثيرة من التشابه والترابط.
أولاً، وحدة موقف محور الممانعة والمقاومة من الحدثين، حيث سارع مثقفوه وسياسيوه لاستحضار، كما درجت العادة، فكرة المؤامرة لتفسير ما يحصل، وتالياً تحميل الولايات المتحدة والدول الأوروبية المسؤولية، إنْ تجاه الحراك الشعبي العارم الذي شهدته إيران، وإنْ تجاه الحرب الأوكرانية، ولسان حالهم يقول: لا شيء عفوياً، وليس للعنف المفرط والاستهتار بأرواح الناس أو للفساد المستشري والتهميش والفقر والتمييز خلال أربعة عقود، أي دور في الانتفاضة العفوية التي شهدتها إيران، بل ثمة أدوار مرتبطة بالخارج وبعملاء ينفذون أجندة مغرضة من أجل إضعاف محور المقاومة في المنطقة وإجبار سلطة طهران على الخضوع للاشتراطات الغربية في الملف النووي. أيضاً تم تسويغ الحرب على أوكرانيا بأنها دفاع مشروع عن النفس لوضع حد لما يسمونها «البلطجة والمؤامرات الغربية» التي تتقصد إضعاف روسيا وتحجيمها، ولا تسمح بقيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، والأسوأ انسياق هؤلاء الآيديولوجيين وراء اندفاعات دينية مضللة لحرف الأنظار عن الحقائق الملموسة وفصل الناس عن واقعهم الموضوعي، مثل الترويج لما ورد على لسان الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني بأن على أنصار إيران ألا يحزنوا أو يتألموا مما يحدث، ما دام الحاكم الحقيقي لإيران هو الإمام المهدي! ومثل توصيف الحرب في أوكرانيا على أنها حرب روحية وثقافية، واستحضار نظرة الشعب الروسي خلال العهود القيصرية إلى حاكم البلاد الذي لا يُهزَم بصفته مختاراً من الله لقيادة الأمة وإعلاء شأنها.
ثانياً، يصح النظر إلى الحدثين بصفتهما انعكاساً لتداعيات الطموح الإمبراطوري للنخبة الحاكمة في كل من روسيا وإيران وتطلعهما لاستعادة أمجاد غابرة، وما يستدعيه ذلك من إشهار المعاداة لأميركا وأوروبا وقيم الحضارة الغربية، وشحن العصبيات المتخلفة، القومية والمذهبية، وتسويغ استخدام مختلف أشكال القوة والعنف لتوسيع النفوذ والسيطرة على مناطق ومجتمعات الغير، وفي الطريق حرف الانتباه عن مشكلات الداخل المتفاقمة وإقناع الناس بأوهام التفوق والتميز لمقارعة الآخرين، على حساب حريتهم وازدهارهم الاقتصادي، بما في ذلك تسويغ الانخراط في سباق تسلح مرهق تدفع الشعوب، من شروط حياتها ومستقبلها، أثمانه الباهظة.
ثمة حنين إمبراطوري عبّرت عنه قيادة الكرملين غير مرة، عن ضرورة إعادة بسط سلطتها على كل الأراضي المحيطة بروسيا الاتحادية، كأنها لا تزال تعد نفسها الوريث الشرعي والامتداد الطبيعي للاتحاد السوفياتي، كذلك لم يخفِ زعماء طهران مطامعهم لاستعادة الإرث الإمبراطوري الفارسي، والترويج عبر شعارات دينية وأدوات طائفية لأوهام التفوق القومي والتمايز كشعب على الآخرين، ومثلما تفاخرت وتتفاخر موسكو بضم شبه جزيرة القرم ومناطق من جورجيا ومؤخراً ضم أربعة أقاليم من أوكرانيا، فإن حكام إيران يفاخرون بدورهم في سيطرتهم على أربع عواصم عربية، متوسلين رايات مذهبية وأذرعاً عسكرية منفلتة من كل وازع أو رادع.
ثالثاً، يترابط الحدثان بتأثيرهما المباشر على الوضع السوري، فحرب روسيا في أوكرانيا وعواقبها كما تداعيات الانتفاضة الشعبية في إيران، تضع بالضرورة مسألة الراهن السوري ومستقبله على بساط البحث، يحدو ذلك الانشغال الموضوعي للطرفين الرئيسيين، روسيا وإيران، بهمومهما، وهما اللذان يملكان ركائز عسكرية واقتصادية قوية في سوريا، الأمر الذي قد يبدّل بعض معادلات الاستقرار الهش، كما يُضعف أكثر فأكثر الاهتمام العالمي بالملف السوري وفرص معالجته، ويزيد من تفاقم أزماته المتنوعة، كما من حالة التفسخ والاستنقاع التي لا تزال تحكمه، ويمكن أن نضيف أن الحدثين يترابطان أيضاً مع الوضع السوري، في تشابه صور القهر والعنف والتدمير التي مورست هناك، بما في ذلك توظيف الخبرات التي امتلكت في قمع الشعب السوري لمواجهة الشعبين في أوكرانيا وإيران، والأسوأ حين يتشجع الطرفان عبر تغطيتهما استخدام الأسلحة المحرمة دولياً في سوريا، كالسلاح الكيماوي، على استخدام مثلها، ما قد يفسر، ربما، التهديدات الروسية المتكررة باستخدام السلاح النووي، وذاك الإصرار الإيراني على التشدد في الملف النووي ورفض تفتيش بعض مراكز تخصيب اليورانيوم، ولا يغير من حقيقة ترابط الحدثين بالوضع السوري، حين يميل بعض المعارضين السوريين إلى قراءة معاكِسة جوهرها الرهان على أن يفضي انشغال سلطة إيران بالانتفاضة وقيادة الكرملين بحربها، إلى تجميد مسارَي الآستانة وسوتشي اللذين كرستهما التوافقات الروسية والإيرانية مع تركيا، ما قد يفعّل دور المجتمع الدولي ويشدد على التمسك بعملية الانتقال السياسي وفق القرار الأممي (2254) ويدرجون في هذا السياق بعض الحماس العربي الذي ظهر مؤخراً للعب دور في معالجة الملف السوري.
النقطة الرابعة، تتعلق بالاختلال الكبير في ميزان القوى بين شعبي أوكرانيا وإيران من جهة، وبين حكام طهران وقادة الكرملين من جهة أخرى، وأيضاً بتلك الدرجة من الاستهتار بأرواح الناس، واستسهال استخدام مختلف أنواع الفتك والتنكيل للنيل منهم، كأنّ ليس من حقهم الحياة والاختيار وتقرير المصير، ثم بتشابه الحدثين في كشف ضعف الالتفاف الشعبي حول السلطتين الإيرانية والروسية، حيث بدا لافتاً الهروب الواسع للشبان الروس من قرار التعبئة الجزئية الذي أصدرته قيادتهم لتسعير الحرب، بينما ظهرت الاحتجاجات الإيرانية كأن لا سابق لها من حيث الانتشار والاتساع، فشملت غالبية المدن والمناطق ومختلف فئات المجتمع، عدا عن تكرار الإشارات عن رفض أو تردد بعض المجندين الإيرانيين، وربما لأول مرة، في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العُزل، ويبقى الأهم تشابه الحدثين في إظهار القوة الكامنة لدى الشعوب في السعي لنيل حقوقها، ومثلما هي المفاجأة التي أحدثها الأوكرانيون في دفاعهم عن أرضهم وكرامتهم، كمشاهد الصمود في جزيرة الثعبان ومصانع آزوفستال! كانت المفاجأة في شجاعة المرأة الإيرانية بانقلابها على موروث اضطهادها التاريخي وعلى الأنظمة الأبوية الصارمة، ليأسر العقول والأرواح شعار «المرأة، الحياة، الحرية» بمعانيه البسيطة والشاملة، ولتذهل العالم صور فتيات إيرانيات يتحدين السلطة ويطالبن بإسقاطها وهن ينزعن حُجبهن ويقصصن شعورهن احتجاجاً على مقتل مهسا أميني.
8:2 دقيقه
TT
انتفاضة إيران وحرب أوكرانيا!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة