د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

مستقبل القلم العربي وذكائه

كل الإبداعات مصدرها القلم. فهو يضحكك ويبكيك، يسعدك ويحزنك، يدفعك للتأمل وينتشلك من مستنقع الوحدة إلى متعة المشاهدة والقراءة والاستماع. كل ما يظهر على الشاشات الكبيرة والصغيرة كان مكتوباً، ولو على شكل رؤوس أقلام، حتى كوميديا المسارح هي سيناريوهات مكتوبة تدفعك للضحك، وأحياناً إلى الأسى على حالك أو واقع أمتك بالكوميديا السوداء على غرار «ستاند أب كوميدي».
حضرنا منذ أيام كأعضاء «مجلس إدارة جائزة الإعلام العربي» الحفل المنتظر لتوزيع الجوائز (أوسكار الإعلام) في دبي، وكان على هامش منتداه جلسة «مستقبل القلم العربي». جلست أفكر ملياً في مستقبل قلمنا ليس ككتاب فحسب، بل كل من يرتقي بالشاشات والمنصات بمحتوى رصين وممتع وإبداعي. كل الأفلام التي نالت شرف جوائز الأوسكار كتبت بأنامل احترافية، كل جائزة قدمتها جائزة الشيخ محمد بن راشد مقروءة أو مرئية أو مسموعة أو رقمية كانت في الأصل نصاً مكتوباً تضافر مع منصة متألقة فصار عملاً يشار إليه بالبنان، بل حتى «أفضل كاتب عمود» هو الشخص الذي يكرمه راعي الحفل بنفسه من بين كل الجوائز. وهو تقدير كبير للقلم العربي.
‏نحن كعرب بحاجة ماسة إلى الاستثمار في النصوص، وتوسيع نطاق ما يُكتب، إذ لا يشكل محتوانا سوى 5 في المائة مما هو مدون في الإنترنت. وقد جمعني لقاء خاص مصغر مع الريادي الأردني المتألق رامي القواسمي المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «موضوع» وست شركات له تصنع المحتوى. وبعد جهد جهيد صار يرتادها 100 مليون زائر وهو رقم هائل إذا عرفنا أن عدد العرب المتصلين بالإنترنت نحو 200 ألف عربي.
ما فعله القواسمي يكشف لنا شيئاً من آفاق مستقبل النص العربي. فاستناداً على تقنية الذكاء الاصطناعي أنشأ شركة «قلم» التي تُجَوِد وتصحح النصوص وتشكلها، وأطلق خدمة «سلمى»، وهي أشبه بنسخة Siri الإنجليزية لأجهزة Apple وتمكن من إصدار قواميس عربية، وأخرى للهجات محلية، بحيث تتحدث هذه الآلة باللهجة التي يفهمها أهل البلد فيمكن أن يطلب منها المرء صوتياً ما يشاء وتأتيه «سلمى» بالخبر اليقين في لمح البصر. وأطلق أيضاً صفحات «موضوع»، التي لم تترك موضوعاً إلا وطرقته. وقدم موقع «ملهم» مدونة المبدعين و«ويب طب» وخصني بخبر حصري، وهو إطلاقه قريباً لموقع «ورقة»، وهو منصة للمبدعين والـfree lancers ككتّاب النصوص والمصممين وغيرهم.
نحن بحاجة إلى دعم هذه الجهود باستثمارات هائلة، فهناك جدوى مادية كامنة وراء ارتقاء النصوص وتوسع نطاقاتها، إذ سيكون في مقدور المهتمين معرفة ماذا يبحث الإنسان عنه في هذه اللحظة وفي أي رقعة جغرافية يحدث ذلك. وهي مادة مهمة للمعلنين والشركات لتقديم أفضل خدمة. ‏فكلما زاد النص العربي وتنوع وتعمق زادت فرص الإقبال عليه ومن ثم معرفة ماذا يريد العرب في كل وقت وحين. فعندما تكتشف «مجسات» الذكاء الاصطناعي أن هناك بحثاً هائلاً عن مرض معين أو خطر داهم في منطقة ما تستطيع الدول أو الجهات المهتمة تقديم حلول أو مواد أو حملات إعلامية يجد فيها الناس ضالتهم.
خطورة ما نحن مقبلون عليه تكمن في أن الذكاء الاصطناعي لم يعد يحدد ماذا نريد الآن، ولكنه دخل في مرحلة «التنبؤ» بالسلوك المستقبلي. فإذا ما جالس شخص صديقاً ثم مضى كل منهما في حال سبيله بعد نقاش عن أماكن السفر مثلاً سيجد كل منهما أن الإعلانات قد بدأت تنهال عليهما، وهذا ليس بسبب التجسس الصوتي كما يشاع ولكن الآلة صارت تستطيع أن تتنبأ بماذا يبحث عنه الطرفان بعد أو قبل اللقاء ثم تحاول تقديم ما تتوقع أنه سيناسب كلاً منهما. قبل أيام انتشرت حكاية حادثة أقلقت العلماء عندما تم اكتشاف أن حاسوبين صارا يتحدثان مع بعضهما بعضاً ويوشكان على اتخاذ قرارات ربما لا تكون في صالح البشر. فأوقف المعنيون ذلك فوراً.
مما سبق يبدو أننا كأمة ندخل عصراً لا حدود لآفاقه. فإذا لم نؤهل القلم العربي جيداً من المدارس حتى منصات التعليم والإعلام سيبقى فضاؤنا خاوياً من مادة رصينة تواكب التقدم المذهل القادم الذي سيحتاج للنص الإبداعي للبقاء في دائرة التنافس.
مشكلة القلم أنه يأتي فارغاً إذا لم نزوده بمعين لا ينضب من حبر القراءة.