رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

«لبننة» الاستحقاق الرئاسي: هل هو ممكن فعلاً؟

شعار «لبننة» الاستحقاق الرئاسي الذي رفعته كتلة النواب التغييريين في لبنان شعار جميل وبرّاق، ولكن الوقائع السياسيّة والأمثلة التاريخيّة لا تشجع كثيراً في مجال رفع سقوف التوقعات من هذه الطروحات التبسيطيّة التي غالباً ما تتغاضى عن طبيعة التركيبة اللبنانيّة ولو أنها تدغدغ مشاعر شرائح واسعة من اللبنانيين الذين باتوا يتوقون لاستعادة قرارهم الوطني الحر والمستقل الذي صودر من بعض الجهات الإقليميّة التي لا تتوانى عن استخدام الساحة اللبنانيّة لمآربها ومصالحها السياسيّة.
وإذا كان رفع السقوف لناحية «اللبننة» مطلوباً في الشكل والمضمون، إلا أنه سوف يصطدم، بطبيعة الحال، بعددٍ من العثرات المحليّة والخارجيّة. لم يحصل يوماً إن كان انتخاب رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة منزهاً عن الاعتبارات الخارجيّة، كي لا يُقال إن ثمّة تجاراً بسابقة أغفل فيها الجانب المحلي تماماً لعل من أشهرها، على سبيل المثال، قرار النظام السوري التمديد لرئيس الجمهوريّة إلياس الهراوي سنة 1995 (خلافاً للدستور)، ولاحقاً للرئيس إميل لحود سنة 2004.
في الحالة الأولى، «أبلغ» الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد القيادات السياسيّة اللبنانيّة بـ«قراره» التمديد للرئيس الهراوي عبر مقابلة أجرتها معه صحيفة «الأهرام» المصريّة، بحيث إنه لم يكلف نفسه حتى تقديم «إخراج» سياسي لائق بالاستحقاق ويليق باللبنانيين. وغنيٌّ عن القول إن التمديد حصل تماماً وفق الرغبة السورية.
في الحالة الثانية، أخذت «الأبعاد الإخراجيّة» منعطفات أكثر دراماتيكيّة. الرئيس السوري أبلغ الرئيس اللبناني الذي شارفت ولايته الممددة على الانتهاء «قراره» بتعديل الدستور مجدداً بما يتيح انتخاب قائد الجيش يومذاك العماد إميل لحود. وهكذا كان. عند اجتياز الرئيس اللبناني نقطة الحدود اللبنانيّة - السورية، أبلغ الأمر لرئيس مجلس النواب، وحصل ما حصل. إلا أن الأكثر سوءاً حصل بعد ثلاث سنوات عندما فرضت الوصاية السورية على اللبنانيين تعديل الدستور مجدداً لتمديد ولاية لحود قسراً.
أما في السنوات السابقة، فإن التجربة الانتخابيّة لرؤساء لبنان لم تكن براقة بدورها. لربما تغيّر اللاعبون الإقليميون، ولكن سياسة الخرق والاختراق للقوى اللبنانيّة وزرع النفوذ بقيت مستمرة في الكثير من العهود. قلّما حصل انتخاب من دون غطاء أو تسوية أو تفاهم دولي معيّن. لعل الاستثناء الوحيد كان في انتخابات الرئاسة سنة 1970 حينما فاز الرئيس المنتخب سليمان فرنجيّة بفارق صوت واحد.
مهما يكن من أمر، فإن محطة الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة في هذه اللحظة السياسيّة بالذات تنطوي على أهميّة استثنائيّة لأنها باتت تُعد من شرائح واسعة من اللبنانيين خشبة الخلاص الوحيدة التي يمكن من خلالها العبور نحو واقع سياسي واقتصادي جديد يتيح لهم الخروج التدريجي من الأزمات المتلاحقة، لا سيّما على ضوء تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة وتآكل الرواتب والأجور وتردي الخدمات العامة.
لذلك، على قدر ما تنطوي الدعوة إلى «لبننة» الاستحقاق على رغبة باستعادة دور مسلوب، بقدر ما تعكس فهماً محدوداً لطبيعة التركيبة اللبنانيّة بكل تعقيداتها وتشابكاتها المحليّة والخارجيّة. وإذا كانت مغادرة هذا الواقع المقلق مطلوبة، فإن الرسوب في صياغة ثوابت وطنيّة يجعل من المطالبة به (أي اللبننة) مجرّد فقاعات إعلاميّة ليس إلا.
البلد المنقسم على ذاته، سياسياً وطائفيّاً ومذهبيّاً ومناطقيّاً، والذي عانى منذ تكوينه الملتبس سنة 1920 وُوضع تحت رعاية الانتداب الفرنسي، من التجاذبات والتأثيرات الخارجيّة، قد لا يتمكن في لحظة الضباب الإقليمي من اقتناص اللحظة وإعادة الاستحقاق إلى واقعه المحلي حصراً.
هل هناك من عاقل بوسعه أن يعترض على أن يكون انتخاب الرئيس اللبناني انتخاباً محليّاً صافياً؟ كلا، بطبيعة الحال. ولكن هل من عاقل أو قارئ سياسي يستطيع أن يقتنع باحتمال اعتماد هذا الخيار قبل أسابيع محدودة من انتهاء الولاية الرئاسيّة وفي ظل احتدام وانقسام محلي عميق يلامس كل القضايا الوطنيّة تقريباً؟
المهم، في نهاية المطاف، أن ينجح اللبنانيون بانتخاب رئيس يحظى بالثقة، وضمن المهلة الدستورية، وألا يسمحوا بشغور الموقع الأول في الدولة مما يفسح المجال أمام إدخال البلاد في فوضى دستوريّة وسياسيّة وربما أمنيّة، لن يكون الخروج منها بالأمر السهل!