إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

الدكتور أبو الغار

سألني الزميل الكبير سمير عطا الله عن كاتب العمود الذي تستهويني كتاباته. فكرت ثانيتين وأجبت: محمد أبو الغار في «المصري اليوم». وأيدني الأستاذ سمير وأثنى عليه، كاتباً وإنساناً.
وأبو الغار طبيب وليس صحافياً. وهو «أبو أطفال الأنابيب» في مصر. شخص في عدة شخصيات. عالم ومؤلف ومترجم ورحالة جوّاب آفاق. وقبل ذلك هو وطني مناضل على طريقته. دون حزب وصوت عالٍ. وسبب كتابتي عنه، اليوم، مقال جديد قرأته له عن شاعر الأغنية حسين السيد، صاحب: «حكيم عيون أفهم في العين وأفهم كمان في رموش العين». وأدهشني أن طبيب التوليد وغرف العمليات يكتب بحساسية فنان يلتقط نسمة الجمال حيثما هبّت.
هل قلت «أدهشني»؟ كأنني لم أقرأ مذكراته التي صدرت عن دار «الشروق»، وفيها يقول إنه كان، وهو طالب، يحرص على حضور حفلات أم كلثوم، أول خميس من كل شهر. وكان، في تلك الفترة من أواخر الخمسينات، يدفع في التذكرة خمسين قرشاً. بقي من عشاق الست حتى بعد صعود نجم عبد الحليم حافظ وانجذاب الشبيبة إليه.
دخل أبو الغار مدارس الحكومة قبل أن يشمله قرار مجانية التعليم. شارك في النشاطات المدرسية مثل المسرح والكشافة ودورات تحسين الخط وغيرها من أساليب تربوية قويمة كادت تنقرض. وكان رياضياً محترفاً. عمل في فترة من بدايات حياته طبيباً في مستشفى الطيران، وكان يسمى المستشفى الفرنساوي قبل تأميمه. ولأن المشير عبد الحكيم عامر كان مهتماً بكرة القدم فقد تردد كثير من اللاعبين على ذلك المستشفى للعلاج. وفيه تعرف الطبيب الشاب على أحد المحكمين الدوليين الذي أغراه بأن يتقدم لامتحان حكام كرة القدم. أعطاه كتاباً عن قواعد اللعبة قرأه في ثلاثة أيام ودخل الامتحان. أصبح حكماً معتمداً من اتحاد الكرة. حمل راية مباراة الزمالك وفريق البلاستيك للأشبال. انتهت بهزيمة الزمالك ورمى الجمهور المحكمين بالطوب فاعتزل التحكيم.
حصل محمد أبو الغار على وظيفة أستاذ في طب القصر العيني وهو دون الأربعين. آنذاك، كانت أول طفلة أنابيب قد ولدت في إنجلترا. ودخل الطبيب المصري في مراسلات لنقل التجربة إلى بلاده. لكن الأمور لم تجرِ على ما يرام، لحين أواسط الثمانينات. فقد وصله مكتوب من الدكتورة رجاء منصور، خريجة القصر العيني التي تعمل في مركز أطفال الأنابيب في جامعة أوهايو الأميركية. كانت قد أنهت تدريبها وقررت العودة إلى الوطن وتنوي تأسيس مركز مماثل في القاهرة. دعوة جاءته من السماء.
بمساعدة زميل ثالث بدأ التخطيط للمشروع الذي فتح أبوابه في ربيع 1986. من يقنع الناس بأن تلك العمليات ليست حراماً؟ عثروا على فتوى من الشيخ جاد الحق منشورة في مجلة «الأزهر»، يوم كان مفتياً للجمهورية. سأله زوجان يودان السفر إلى الخارج لإجراء عملية زرع بالأنابيب، وجاء رأيه واضحاً بأن الدين الإسلامي لا يعارضها ما دام الجنين الذي سينقل إلى رحم الزوجة هو من بويضتها المخصبة بحيامن زوجها. انتهينا من المسلمين فماذا عن الأقباط؟ حصل أبو الغار على كتيب صغير طبعته الكنيسة يشرح شرحاً مبسطاً عمليات أطفال الأنابيب. وفي 7 يوليو (تموز) 1987 ولدت هبة الله، أول طفلة أنابيب مصرية. وبعدها انشرحت قلوب آلاف من الآباء والأمهات الذين عانوا من العقم.
اعتاد الدكتور أبو الغار أن ينهي مقالاته بعبارة لا تتغير: «قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك». نداء يصلح لكل شعوبنا: «قم يا عربي... أوطانك تناديك».