أصبحت عبارة «غير مسبوق» وصفاً شائعاً يتكرّر سنة بعد سنة، أكان المقصود حرائق الغابات أم موجات الجفاف والفيضانات، التي لم تنجُ منها أي منطقة. فكأن العالم يشهد تحطيم أرقام قياسية في الكوارث، ينافس تحطيم الأرقام في الألعاب الرياضية، مع ما تتسبب به من خسائر بشرية وأضرار بمليارات الدولارات في البُنى التحتية والممتلكات. فما نعتبره «غير مسبوق» اليوم سيصبح «مسبوقاً» بعد سنة.
صحيح أن هذه الكوارث الطبيعية، بحجمها ووتيرة تكرارها، تعود في جزء كبير منها إلى آثار التغيُّر المناخي. لكن الصحيح أيضاً أن من أبرز مسبباتها تقصير في التخطيط، من استعمالات الأراضي إلى إدارة الغابات والمياه، والموارد الطبيعية عامة. لذا لا يجوز أن نقف متفرّجين في انتظار تحقيق التخفيض المطلوب في الانبعاثات الكربونية للحدّ من ارتفاع معدّلات درجات الحرارة ومجابهة تغيُّر المناخ. فقد تحوّل عنوان التغيُّر المناخي حجّة يتستّر وراءها بعض المسؤولين لتبرير التقصير، وكأن لا حول ولا قوّة لهم لمنع التدهور. وفي حالات كثيرة، يكاد العمل يقتصر على الاستعداد للتعامل مع الكوارث بعد وقوعها، مثل صرف الميزانيات الطائلة على معدّات إطفاء الحرائق، من سيارات وطائرات وأجهزة متطوّرة، مع إهمال التخطيط والتدريب.
حرائق الغابات ستزداد، من غير أن تنجو منها المنطقة العربية. فهذه لن تكون المرة الأخيرة التي تلتهم فيها النيران غابات المغرب والجزائر ولبنان وسوريا والأردن، أو تجفّ فيها مياه الأنهار والآبار الجوفية، من المغرب إلى المشرق ووادي النيل وصولاً إلى الخليج. كما لن يكون حدثاً عابراً وصول درجة الحرارة في البصرة إلى أقصى ما تم تسجيله على وجه الأرض، كما حصل أوائل هذا الشهر. كلّ هذا يستدعي التحوُّل السريع من إدارة الكوارث إلى إدارة الموارد، وفق برامج علمية متكاملة، إلى جانب وضع خطط استباقية لمواجهة الحالات الطارئة، بدءاً من التنبؤ بها قبل وقوعها.
من التدابير الأساسية في إدارة الغابات عدم الاكتفاء بنوع واحد، بل زراعة أنواع متعدّدة من الأشجار. فبعض الأشجار أكثر تأثُّراً بالجفاف وأكثر تعرُّضاً للحريق، مما يساعد في امتداد النيران سريعاً إلى مناطق واسعة. كما أن تنوُّع أشجار الغابة يساعد في مكافحة الأمراض والحشرات الضارّة، مثل «دودة الزيّاح»، التي تمشي أفواجاً في مواكب، وتضرب أشجار السنديان بعد أن تبني أعشاشها فيها. وعدا عن فتكها بالأشجار، فلهذه الدودة السامّة ذات الشعيرات أثر خطر على البشر، إذ تتسبب بإصابات قاتلة في العيون والجهاز التنفسي. وقد انتشر السنديان في مناطق شاسعة عبر أوروبا، لسهولة زراعته وسرعة نموّه، بالتوازي مع إهمال الأنواع الأخرى. وساعد في انتشار الدودة السامّة تناقص أعدائها الطبيعيين، من عصافير وحشرات. وتقوم، منذ سنوات، حملات واسعة لإعادة التنوُّع إلى أشجار الغابات، بهدف إكسابها مناعة. فحين تتعرّض بعض أشجار السنديان لليباس وتصبح لقمة سائغة للنيران، تبقى أنواع أخرى من الأشجار للمحافظة على استمرار الغابة.
وفي حين كان الاعتقاد السائد أن أوراق الأشجار والأغصان والجذوع الميتة يجب أن تُترك في أرض الغابة لأنها تساعد في تغذية التربة، فالتغيُّرات المناخية السريعة تستدعي اليوم إزالة قسم كبير منها، لأنها تتسبب في اندلاع الحرائق. وخلافاً لما تطالب به بعض جماعات البيئة، عن حسن نية، بعدم شقّ طرق في الغابات ومنع أي قطع لأشجارها، فمن الضروري شقّ ممرات وإقامة مساحات خالية من الأشجار، من أجل تقسيم الغابة إلى مناطق معزولة بعضها عن بعض بفراغات توقف امتداد الحرائق. كما يسهّل هذا وصول فرق الإطفاء في حالات الطوارئ. ومن التدابير المفيدة تشجيع رعي الحيوانات في هذه المناطق لتنظيفها من الأعشاب.
لقد استغرب بعضهم الأخبار عن قيام إدارة الغابات الأميركية بإشعال حرائق غطّت مساحات شاسعة من المناطق الحرجية بين الولايات المتحدة والمكسيك. هذه الحرائق، التي خرجت عن السيطرة بسبب أخطاء في التنفيذ، كانت متعمّدة لمنع حرائق أكبر. وهي ممارسة تقليدية معروفة منذ القدم؛ حيث كان السكان الأصليون يُضرِمون النار في منطقة معيّنة أصابها الجفاف، وذلك بعد عزلها عن محيطها، كخطوة استباقية لمنع اندلاع الحريق فجأة في وقت غير ملائم وامتداده إلى مناطق أخرى خارج القدرة على التحكُّم.
إلى هذا، لا بد من تعزيز قدرات الرقابة لاكتشاف اندلاع الحرائق في وقت مبكر، أكان بالمراقبة البشرية أم بتركيب أجهزة تحسس أو عن طريق الأقمار الصناعية، التي تستطيع اكتشاف الارتفاع السريع في حرارة منطقة معينة. ويسبق هذا تحديد الأماكن الأكثر تعرُّضاً للخطر، لتعزيز الرقابة عليها. ولما كان الكثير من المناطق الحرجية يقع في نطاق ملكيّات خاصة، فلا بدّ من تثقيف أصحابها وسكان الجوار وتدريبهم على سُبل العناية والرقابة وسرعة التصدي للحريق عند وقوعه.
ولا تقلّ موجات الجفاف الاستثنائية الأخيرة أهمية عن حرائق الغابات، وهي أيضاً لا تُحلّ بتدابير الطوارئ أو بانتظار خفض انبعاثات الكربون. فتغيُّر المناخ يفاقم بالتأكيد موجات الجفاف وندرة المياه، لكن هذا لا يعفي من تدابير سريعة ممكنة التحقيق، عبر إدارة أفضل للمياه وإنتاج الغذاء. ففي المنطقة العربية، يزداد الاقتناع أنه قبل مطالبة الدول الأخرى بالحق الثابت في حصة أكبر من مياه الأنهار، على دول المعبر والمصب أن تعزّز الكفاءة في استخدام المياه وتضع حداً للهدر. كما عليها تخطيط تعزيز الأمن الغذائي عن طريق اختيار أنواع من المحاصيل تناسب المناطق الجافة وتتطلب كميات أقل من المياه، ولو اقتضى هذا تبديلاً في بعض العادات الغذائية.
دفعت موجات الجفاف التي ضربت أوروبا هذا الصيف حكوماتها إلى اكتشاف ثغرات كبيرة في السياسات والإدارة، مع ضعف في التخطيط الاستباقي. فقد وجدت هولندا مثلاً أن الأسعار المنخفضة للمياه لا تشجّع المستهلكين على التوفير في الاستهلاك. كما اكتشفت إسبانيا خطر استمرارها في لعب دور حديقة الخضار والفواكه الأوروبية، رغم الأرباح الكبيرة التي تدرّها عليها. فمئات السدود التي بنتها في مناطقها الجافة لم تعد كافية لري المساحات المتعاظمة من زراعات التصدير المربحة، كما لري ملاعب الغولف للسياح. المشكلة إذاً لا تُختصر في تفاقم الجفاف وندرة المياه بسبب تغيُّر المناخ، بل تعود، قبل ذلك، إلى انعدام التوازن بين محدوديّة الموارد القابلة للتجدُّد والطموحات الاقتصادية.
الإدارة الرشيدة للموارد، التي تحترم قدرات الطبيعة ومحدودياتها، أرخص وأكثر جدوى من الاكتفاء بالتجهيزات المتطورة لمواجهة الكوارث.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»