أحمد محمود عجاج
TT

بريطانيا: ماذا يعني فوز ليز تراس؟

كل المؤشرات تدل على أن وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، ستكون رئيسة الوزراء المقبلة لبريطانيا، لتتوج بذلك حلماً راودها منذ دخولها معترك السياسة. هذا الفوز يعود بالدرجة الأولى لزئبقيتها الواقعية، حيث إنها تحولت من ليبرالية في حزب الديمقراطيين إلى محافظة بنكهة ليبرالية في حزب المحافظين، ثم إلى محافظة يمينية متشددة. وكما نعرف، فإن السياسي يدخل السياسة إما لأنه يؤمن بأفكار يراها الأمثل للمجتمع، أو يدخلها لأجل السلطة، وليز تراس في سبيل السلطة تحولت إلى داعية متحمسة لأفكار اليمين المتشدد المطالب بسيادة منطق السوق. ولكي تثبت تحولها الآيديولوجي بدأت تحاكي رئيسة الوزراء السابقة، مارغريت ثاتشر، في اللباس وفي المنطق، وفي الآيديولوجيا. ولمن لا يعرف مارغريت ثاتشر فإنها المرأة الحديدية التي غيرت اقتصاد بريطانيا من صناعي إلى خدماتي، واستبدلت بالديمقراطية الاجتماعية ديمقراطية السوق الاقتصادية، وغيرت، خلال حكمها الذي تجاوز العشر سنوات، بنية المجتمع البريطاني على قاعدة: مواطن كسول ومواطن يعمل، وغيرت حزب المحافظين من مظلة جامعة كما أراده أشهر سياسي محافظ في القرن التاسع عشر، ديزرائيلي، إلى حزب يرعى رجال المال ويقدس الفردية ويلغي المجتمع.
ثاتشر رفعت في البرلمان كتاب الاقتصادي فريدريك الحايك «الطريق إلى العبودية» عالياً، وقالت إنه إنجيلها. والآن، تسير ليز تراس على خطى سياسة ثاتشر المنادية بتقليص دور الدولة، وفتح الباب واسعاً أمام القطاع الخاص، والتخلص تماماً من كل التشريعات التي تعيق تطوره، وتخفيض الضرائب لتشجيع العمل والاستهلاك لكي يزدهر الاقتصاد وينمو، ولكي يحدث ذلك فلا بد من تخفيض الإنفاق الحكومي إلى أدنى مستويات ممكنة للتخلص من العجز المالي، مما يعني أن الدولة لن تكون قادرة على تأمين متطلبات شرائح فقيرة من المجتمع، ولا على تأمين خدمات عامة جيدة، مثل المواصلات والصحة... هذا المسار يؤدي إلى خصخصة الصحة والمواصلات كلياً، مما يعني أن الذين لا يعملون سيحرمون منهما، ومن الرعاية الاجتماعية.
لا شك أن الظروف التي حملت ثاتشر للسلطة تختلف عن ظروف ليز تراس، وكذلك الظروف الدولية، وبالتالي فإن عودتها للثاتشرية لن تكون سهلة، لأنها لا تملك صفات ثاتشر القيادية، ولا دعم الحزب المطلق، ولا قناعة الناخبين البريطانيين... كل الاستطلاعات تؤكد أنها لا تحظى بدعم أكثرية المجتمع البريطاني، وبالتحديد مناطق الشمال البريطاني التي أعطت حزب المحافظين ثمانين مقعداً في الانتخابات الأخيرة لصالح رئيس الوزراء جونسون، الذي وعد بأن يعيد التوازن الإنمائي بين الجنوب والشمال، ووعد بتحسين الخدمات العامة، وزيادة الإنفاق، ليعيد بريطانيا بالممارسة إلى ديمقراطية اجتماعية. وكلمة الديمقراطية الاجتماعية أصبحت كلمة مكروهة في قاموسها، لأن مَن ينطق بها يصبح اشتراكياً؛ لذلك اتهمت منافسها اليميني، ريشي سوناك، بأنه اشتراكي لكونه دافَعَ، من منطلق براغماتي انتهازي، عن طبقات فقيرة، وخصص مساعدات مالية لها؛ فهي ترى أن الدولة لا توزِّع عطاءات، بل تعمل فقط على ضمان الأمن والاستقرار لكي يعمل الجميع، ويحققوا أقصى الأرباح، دونما أي اعتبار لقوانين تحمي الطبقات المهمَّشة أو العمال الضعفاء.
وكما تكره ليز كلمة اشتراكي، كذلك تمقت كلمة ليبرالي التي تتعارض مع الفكر اليميني المتشدد المستمد من أصول دينية مسيحية؛ فاليمين يرى أن المثلية، والتمييز الإيجابي، وعالمية حقوق الإنسان مؤامرة تضرب بنية المجتمع البريطاني، ولا بد من مواجهتها تحت شعار محاربة ما يُسمَّى «wokeism»، هذه المفاهيم اليمينية المتشددة لا تقبل في جوهرها مصالحة مع قيم أخرى، وتريد عودة المجتمع إلى براءته. لهذا فإن وصول ليز إلى السلطة سيؤدي حتماً إلى تفكك حزب المحافظين، لأن قسماً منه لا يوافق على هذا الإنكار المطلق؛ فكبار الحزب، من أمثال جون ميجر، ومايكل هزلتاين، وكينيث كلارك، وغيرهم، يتخوفون على الحزب، ويرون أن المضي في هذا التوجه الاقتصادي والثقافي سيؤدي في أسوأ الظروف إلى انشقاق الحزب على نفسه، أو في أحسنها الاقتتال داخل البرلمان حول القوانين والتوجهات اليمينية... في كلتا الحالتين سيخسر الحزب السلطة، وسيعود حزب العمال ليحكم منفرداً أو بالمشاركة مع حزب الديمقراطيين الأحرار، بينما يبقى المحافظون في التيه السياسي لزمن طويل.
هنا ستجد ليز تراس نفسها في موقع صعب للغاية يفرض عليها الخيار بين متطلبات اقتصاد السوق وموجبات الديمقراطية؛ فتخفيض الضرائب في وضع اقتصادي صعب تعيشه بريطانيا يعني مداخيل أقل، وضرورة للاستدانة، في ظل مستويات فائدة عالية، وكذلك ضرورة لإرضاء الناس لكي تصوت للحكومة، وهذا لا يمكن إلا بزيادة الإنفاق، لا سيما أن الانتخابات العامة على الأبواب، والمضي في اقتصاد السوق والاستدانة يعني ضرب كل الإنجازات السابقة التي حققها حزب المحافظين منذ عام 2010؛ من استقرار لميزانية الدولة، ومن تغيير لصورة الحزب من حزب «فظ» إلى حزب «رحيم»، وستجد ليز حزبها منقسماً حول وجهته، لأن كثيرين من النواب لا يوافقون على فلسفة السوق المتغولة، ولن يسهلوا تمرير قوانين تراها ضرورية، لأنهم يشعرون بأن الديمقراطية تحتم عليهم الانتباه إلى الرأي العام، وإلا فسيفقدون مناصبهم.
كل السياسيين لديهم انتهازية، إنما بقدر معقول، لأن الانتهازية عندما تتحول لآيديولوجيا بذاتها تصبح خطرة جداً على صاحبها بالذات وعلى المجتمع. ثاتشر كانت صاحبة آيديولوجيا مؤمنة بها، ومستعدة للتضحية من أجلها، وقد اضطرت إلى أن تخرج من السلطة قهراً بعدما انقلب الناخبون عليها، رغم كل إنجازاتها؛ فخسرت سمعتها، وخسرت تأييد الناس، وكذلك حزبها. وليز هي الأخرى عليها أن تستفيد من تجربة ثاتشر، وستدرك أن آيديولوجيا السوق المفرطة خطرة عليها، وبما أنها لا تحمل قناعات ثابتة، فلن تجد حرجاً في تغيير المسار، حالما تستشعر ذلك، لكنها ستدرك أن ثمن ذلك سيكون خروجها السريع من السلطة.