أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

أفكار حول الليبرالية في سوريا!

تواترت في الآونة الأخيرة الدعوات لتشكيل جماعات سياسية في سوريا تجاهر بتبني الفكر الليبرالي، كان آخرها إعلان عشرات الناشطين في مدينة السويداء، تأسيس «الحركة السياسية الشبابية»، التي لخّصت أهدافها بالسعي «للوصول إلى دولة ديمقراطية مدنية مستقلة ليبرالية»، وقبلها ظهرت مثلاً، حركة «ضمير» ثم مجموعة «نواة»، وأيضاً مجموعة «نواة وطن»، وجميعها أظهرت ميلاً صريحاً لقيم الديمقراطية الليبرالية، وبينهما أعلن عام /2020/ عن تشكيل حزب أحرار (الحزب الليبرالي السوري) وأيضاً عن تأسيس «الحزب الوطني السوري»، وقد تبنيا بوضوح الليبرالية السياسية والاقتصاد الحر، طريقاً للخلاص.
ربما يجد البعض الحديث اليوم عن الجماعات الليبرالية في سوريا مسألة غير ضرورية، إن بسبب الفاعلية المحدودة لهذه الظاهرة وضعف فرص التعاطي معها شعبياً وسياسياً، وإن بسبب شدة التعقيدات السياسية في المشهد الراهن جرّاء ما خلّفه العنف المفرط من دمار وضحايا وتعدد التدخلات العسكرية ومناطق السيطرة والنفوذ في البلاد، لكن، في الحقيقة، يبدو أن تقدم الدعوات الليبرالية، على الرغم من ذلك الخراب والتفكك والاحتلالات، وتكرار إطلاق المبادرات السياسية حولها، بدأ يثير الأسئلة ويحفز التفكير للبحث عن معنى حضورها ودوافعها وآفاقها.
أولاً، ما كان لظاهرة الليبرالية أن تأخذ حظها في الحياة والاستمرار في المشهد السوري الراهن إلا لكونها تأتي كرد فعل طبيعي ومفسر على تاريخ طويل من السيطرة الشمولية اقتصادياً وسياسياً، والأهم بالتضاد التام مع احتكار السلطة وتغييب الحريات وسنوات عديدة من عجز النظام عن تحقيق تنمية وإصلاحات تلبي حاجات البشر ومطالبهم، واستخدامه مختلف أشكال التسعير الطائفي وأساليب الفتك والتنكيل للنيل من الحراك الشعبي، فالليبرالية التي نهضت تاريخياً من حقل الاقتصاد دفاعاً عن الفردية وحرية النشاط، ودعت إلى الحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، أنتجت في سياق تطورها التاريخي الملموس، نظاماً سياسياً محايثاً تميز بفصل الدين عن الدولة واحترام الحريات والتعددية وتداول السلطة وحقوق الإنسان، بما في ذلك احترام العقل والجهد الإنساني والثقة بهما وبقدرتهما على إدارة الشؤون العامة في مواجهة ثقافة الوصاية السائدة في حياتنا السياسية.
ثانياً، لعل أحد أسباب انتعاش الفكر الليبرالي في سوريا، أن القوى المعارضة التي حملت لواء التغيير الديمقراطي لم تستطع الخروج من شرنقة مفاهيمها العتيقة، ولا يزال معظمها أسير ثوابت وأصول عفى عليها الزمن، ومحاصراً بالعقائد والشعارات القديمة ويتعامل مع مهام المجتمع الملحة على أنها أمر يمكن القبول به أو رفضه بناءً على المرجعية الآيديولوجية، زاد الطين بلة الدخول الواسع للجماعات الدينية في مسار الثورة والقصور المزمن للمعارضة التقليدية في تحمّل مسؤولياتها وفي التحرر من التجاذبات الإقليمية والدولية؛ ما يفسر المسافة الواضحة التي اتخذتها المجموعات الليبرالية الجديدة من العمل في مؤسسات المعارضة الائتلافية، إما لتقديرها أن الأفق مسدود أمام أي عمل سياسي ينطلق من تلك المؤسسات المرتهنة، وإما بسبب النتائج المرّة والحصاد الهزيل لتجارب الأحزاب الآيديولوجية التي تشكل منها الجسم المعارض، في محاولة للتأكيد على مشروعية تجريب خيار جديد، بعد أن وصلت الخيارات الأخرى من دينية وقومية وماركسية إلى طريق مسدودة وفشلت في تحقيق الأهداف المتوخاة؛ فالشعارات والعقائد الكبيرة التي حاصرت الإنسان وحرمته من حقوقه وحريته، أنجبت أهزل النتائج على المستويات كافة، فلا النهضة الموعودة حصلت، ولا الأرض تحررت، ولا الوحدة العربية تحققت، ولا خطط التنمية نجحت، ولا وصل الإنسان إلى مجتمع العدالة والحرية والكرامة.
ثالثاً، تنامي حاجة المجتمع السوري بخصوصية بنيته التعددية للفكر الحر، وما يقدمه من إجابات مطمئنة لمختلف المكونات القومية والدينية والمذهبية؛ فالليبرالية الديمقراطية هي خير من ساند التنوع العرقي والتعددية الدينية على قاعدة احترام الحريات الشخصية وحقوق الأقليات والمواطنة، وهي خير من انتهج سياسة الاعتراف بالآخر، كضرورة للاعتراف بالهويات والخصوصيات الثقافية في مجتمع تعددي؛ ما يوفر مناخاً مناسباً أمام مختلف المكونات لإنتاج حضورها ودورها، وإعادة بناء الثقة المتبادلة وترميم ما فعله معول العنف والتسعير المذهبي من هدم وتشويه وتفكيك في المجتمع.
رابعاً، يبدو أن هذه الجماعات الليبرالية الراهنة تستمد قوتها من ماضٍ عتيق، قبل تسلم حزب البعث السلطة، حين شهدت البلاد في مرحلة ما بعد الاستقلال، تجربة ليبرالية ثمينة لا يزال السوريون يتغنون بها وبإيجابياتها، يحدو ذلك حضور لافت للأفكار الليبرالية تجلى سياسياً بتيارين كبيرين عُرفا باسم «حزب الشعب» و«الكتلة الوطنية» ورفدتهما شخصيات ليبرالية مستقلة كان لها موقع متميز في المشهد السياسي، أمثال هاشم الأتاسي، وفارس الخوري وخالد العظم، وغيرهم؛ ما شجع البعض على القول، إن الحضور الراهن للفكر الليبرالي ليس طارئاً أو غيمة في سماء صافية، بل يصح اعتباره الوريث الطبيعي للظاهرة الليبرالية القديمة، التي تعرضت للقمع والتغييب.
والحال، على الرغم من مشروعية التجمعات الجديدة ذات التوجهات العلمانية والديمقراطية الليبرالية، فإنها لا تزال تواجه تحديّات كبيرة كي تأخذ فرصتها في الحياة والنماء، منها أن من سوء طالعها أنها بدأت تتشكل في ظروف تأزم المناخ السياسي العالمي وتراجع اهتمامه بقيم الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان أمام تقدم الشعبوية ومنطق القوة والغلبة، ومنها تباين اجتهاداتها ودوافعها من تبني الرؤية الليبرالية، ويمكن للمرء أن يكتشف بعد مقارنة أولية بين أطروحاتها وبرامجها المعلنة أنها ليست كلاً منسجماً، وتفترق بعد اسمها الليبرالي العام، في الكثير من الخصائص والصفات، خاصة لجهة طبيعة الأهداف المتوخاة، ومنها أن الكم الأكبر من دعاة الخيار الليبرالي هم في غالبيتهم كتلة من المثقفين المعارضين الذين رفضوا الماضي السياسي التقليدي ووجدوا في الفكر الليبرالي ضالتهم، ولا يغير هذه الحقيقة أن تضم ظاهرة الليبرالية كتلة مهمة من اللاجئين السوريين، وبعض رجال الأعمال الذي وقفوا في صف المعارضة، وأخيراً من التحديات، وهو الأهم، أن بعض هذه الجماعات لا يزال يحمل الأمراض ذاتها التي تعرفها المعارضة السورية، إن لجهة جرأته في استنساخ التجربة الليبرالية عن الغرب وتقديسها، كما استنسخت التجارب القومية والدينية والاشتراكية، أو لجهة الادعاء بامتلاك الحقيقة والتسرع في إعلان نفسه بديلاً، مستسهلاً إقصاء التيارات الأخرى من مسار الخلاص لإخراج البلاد من محنتها.