توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

ثنائية الاتباع والابتداع

أميل للظن بأنَّ مسار التحديث، سيقود إلى توسيع الشريحة المؤمنة بقيمة العقل والعلم، وبالتالي تعزيز الاتجاه العقلاني في الثقافة العامة والسلوك الجمعي. لكن ستبقى - مع ذلك - شريحة معتبرة، متمسكة بالركون إلى الإرث الثقافي والديني، حيثما تعارضا مع إملاءات العقل أو العلم الحديث.
في أزمنة قديمة، ابتكر بعض العلماء ثنائية «الاتباع والابتداع» كوصف للجدل بين الإخباريين والأصوليين، مع أن غرضها الرئيس - فيما يبدو - هو التشنيع على القائلين بتحكيم العقل في أمور الدين. إنَّ معظم المشككين في دور العقل، في عصرنا الراهن، إنما يعبر عن موقفه الخاص من تلك الثنائية، باختيار الجانب الأول، لأنَّ مشايعة الجماعة أرجى للسلامة. والمقصود بالاتباع هو التعويل على رأي قدامى العلماء وتفسيرهم الخاص للنص الديني. أمَّا الابتداع فيشير إلى ترك تلك الآراء واعتماد تفسيرات جديدة، قد لا تكون مطابقة تماماً لمألوف الجماعة وميولها.
والمعلوم أنَّ الابتداع بذاته، لا يخالف القواعد الشرعية، ولو جادلت أصحاب هذا الوصف لأخبروك عن الأصل اللغوي للكلمة، حيث يطلق اسم البدعة على كل بديع، حسناً أو سيئاً. لكن كثرة استعمالها في وصف الخارجين عن الجادة، ألقى عليها ظلالاً سلبية كثيفة، بحيث لم يعد الإخباريون يطلقونها إلا في مقام الذم والإنكار.
ثمة أدلة كثيرة جداً، من الكتاب والسنة والتجربة التاريخية، على ترجيح الأخذ بالأدلة العقلية ومستخلصات العلم، وجعلها أصلاً من أصول الشريعة، موازياً للكتاب والسنة. إلا أنّي لست متفائلاً بأنَّ النقاش سيحسم الخلاف بين الطرفين، دعاة العقل ومخالفيه. ونحن جميعاً نعرف السبب، وهو ببساطة: التأكيد على اللامسؤولية كطريق للنجاة.
بيان ذلك: يقول الإخباريون إنَّ النَّصَ معصومٌ أو صادر عن المعصوم. أما نتائج العقل ومستخلصات العلم فليست معصومة. بل هي أقرب إلى النقص والخطأ، لتأثرها بالغرائز والشهوات والنزعات الانفعالية، التي لا يخلو منها إنسان. يترتب على ذلك أنَّ اتباع النَّص والأشخاص الملتزمين به، يجعلك متبعاً – وإن بصورة غير مباشرة – للمعصوم. ولهذا أيضاً فإنَّ الخطأ غير محتمل عندك. ولو جئت ربك يوم الحساب، فيكفي الاحتجاج بأنَّك اتبعت قول المعصوم. أمَّا لو اتبعت عقلك أو حكم العقل بصورة عامة، فسوف يتوجب عليك أن تبرهن على صحة اختيارك في كل جزء وكل نقطة، لأنَّ الإنسان مسؤول عن خياراته وأفعاله الإرادية.
بعبارة أخرى فإنَّ الطريق الأول يخليك من المسؤولية، بينما الثاني يحملك إيَّاها. هذا هو خلاصة الاحتجاج الخاص باتباع النقل والعقل. بقية الاحتجاجات هي نقل لأقوال علماء سابقين اتخذوا هذا المنهج، لذا فإنَّ قولهم تأكيد على رأيهم وليس دليلاً على الرأي المضاد.
واضح أنَّ هذه الرؤية تتعامل مع الدين باعتباره صندوقاً محكماً لا يحق للإنسان فتحه، ومع علماء الدين باعتبارهم حراساً على بيت الله. أمَّا الرؤية العقلية فتنظر للدين كمنهج حياتي، يتجدَّد من خلال التجربة والتفاعل بين رؤاه النظرية وتطبيقات اتباعه. ربَّما يخطئون هنا أو هناك، لكنهم - في الإطار العام - يحفظونه حيّاً، بتمكينه من استيعاب التحديات التي يأتي بها الزمان وأهله.
هذا هو السبب الذي يجعل دعاة التزام النقل، ملتزمين أيضاً بالتاريخ ورجالاته وقضاياه. بل إنَّ بعضهم يصف نفسه بالأثري والعتيق، للتأكيد على أنَّه امتداد لآثار السابقين وأعمالهم، أثري وعتيق، وإن عاش في عصر جديد. بينما ينتسب العقلانيون إلى العصر الحاضر وعلومه ومناهجه، كما يتحدثون عن تحدياته.