رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

انتخاب الرئيس اللبناني الجديد: فرصة «أخيرة» للعبور إلى الدولة!

دخل لبنان عملياً في مرحلة السبات السياسي بانتظار أن يحين موعد الاستحقاق الأهم المتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في الحادي والثلاثين من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؛ وهو الموعد الذي تنتظره بفارغ الصبر الغالبية الساحقة من اللبنانيين الذين يرون أن هذا العهد كان مسؤولاً عن وصول الأوضاع اللبنانية المزرية إلى حالها الراهن.
ينص الدستور اللبناني في المادة 73 على أنه «قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم مجلس النواب بناءً على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد. وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس». كما تنص المادة 75 على أنه «يعتبر مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أي عمل آخر».
هذا يعني عملياً إمكانية المباشرة بعملية انتخاب الرئيس الجديد بدءاً من مطلع سبتمبر (أيلول) تلافياً للوصول إلى الفراغ الرئاسي. ولكن، معلوم أن انتخاب الرئيس اللبناني قلّما كان بمثابة عملية تصويت تقنية بحيث تدور الصندوقة الخشبية على النواب في قاعة الهيئة العامة (بدل التصويت الإلكتروني الحديث الذي لم يُستخدم قط!). غالباً ما يكون اختيار الرئيس اللبناني نتاج تسوية سياسية لها أبعادها الدولية والإقليمية وطبعاً المحلية.
وغالباً ما انتهت التجارب التي لم يكن يتوفر لها «الغطاء» العربي والإقليمي والدولي إلى فشل ذريع أو حتى إلى الاغتيال مثلما حدث في حالات معروفة. أما انتخاب عون، على سبيل المثال، فهو أيضاً لم يكن سوى نتيجة تسوية سياسية مصطنعة فرضتها عوامل كثيرة، منها أمد الفراغ الرئاسي الطويل الذي دام لأكثر من عامين ونصف بسبب سياسة التعطيل والشلل التي مارستها قوى لبنانية معروفة، ومنها حسابات أخرى فئوية ومصلحية لبعض الأطراف أدت إلى وصوله إلى سدة الرئاسة.
في مطلق الأحوال، لا مناص من القول بأن توسيع الهامش المحلي في الاستحقاق الرئاسي اللبناني هو حاجة ملحة حتى ولو لم يفضِ إلى «لبننة» الاستحقاق بشكل كامل. لقد آن الأوان لهذا البلد الصغير الذي «احتفل» منذ عامين بمئوية ولادته أن يعبر نحو قيام الدولة المرتجاة التي من المفترض أن تتمتع بهوامش أكبر من الاستقلال القائم على ثوابت وطنية متفق عليها، وهنا مكمن المشكلة الحقيقية.
لبنان يحتاج إلى رئيس جديد معتدل، منحاز إلى فكرة الاستقلال، ويسعى فعلياً لقيام الدولة، وهو يحتاج إلى رئيس يفهم طبيعة التوازنات اللبنانية الدقيقة التي غالباً ما كان يؤدي الإخلال بها إلى توترات سياسية وميدانية لم تخلُ في بعض الحقبات من دورات متتالية من العنف، ومن أبرز تلك التجارب الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) وفي أمثلة تاريخية كثيرة أخرى.
ولبنان يحتاج إلى رئيس يؤكد الهوية العربية للبلاد، ويدرك أن انضواء لبنان في إطار محيطه العربي الطبيعي لا يعني انخراطه في محور سياسي إقليمي ضد آخر، بقدر ما هو يعني تموضعه في مكانه الصحيح. لبنان عضو مؤسس في جامعة الدول العربية (1945)، وانقطاعه عن بيئته العربية يعني له عزلة قاتلة.
لقد تطلب حسم هوية لبنان العربية عقوداً طويلة من الصراعات السياسية والدموية، إلى أن حُسمت الهوية في اتفاق الطائف (1989) الذي وُلد برعاية عربية (سعودية بالدرجة الأولى) - دولية. لذلك، فإن انتخاب أي رئيس لبناني جديد لا يراعي هذه الهوية العربية ويعيد الاعتبار لها وينجح في فتح كوة في جدار العلاقات الموصدة بين لبنان والعرب، هو بمثابة خطوة تراجعية كبيرة إلى الوراء وتصب في مصلحة محور الممانعة الذي يُدار ويُحرَّك من خارج الأطر العربية وبما يتناقض تماماً مع مصالحها.
لن يتحمل لبنان مرة جديدة تجربة «الرئيس القوي»، أي عملياً الرئيس المستعد أن يتحدى كل الأطراف والقوى السياسية بلا طائل، والرئيس المتأهب دوماً لافتعال المعارك الوهمية حول الصلاحيات الدستورية حتى ولو أدى ذلك إلى انهيار البلاد ودخولها في قعر سحيق من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والمعيشية.
لم يعد مهماً ما إذا كانت سوف تؤلَّف حكومة جديدة في لبنان في الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية، بقدر ما هو مهم بناء رأي عام لبناني وخارجي ضاغط لإنجاز الاستحقاق في موعده من دون تأخير أو مماطلة أو تسويف أو تعطيل كما حصل في السابق.
المهم هو قطع الطريق باكراً على أي محاولات مشبوهة لاستصدار «فتاوى» دستورية الهدف منها السماح للرئيس الحالي بالبقاء في موقعه بعد انتهاء ولايته بحجة عدم انتخاب خلف له.
لا مناص من احترام المهل الدستورية مجدداً ومن إعادة الاعتبار للمؤسسات السياسية وفق الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور. إن عبور لبنان لهذا الاستحقاق المفصلي بطريقة سلسة توصل إلى النتائج المرجوة أكثر من ضروري لتلافي المزيد من الانهيارات والانكسارات في المشهد اللبناني الحزين.