فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

أين ذهب الفلاسفة وأين اختفى الشعراء؟

أين مضى الفلاسفة؟ وإلى أين هاجر الشعراء؟ أين اختفت تلك الروايات الكبرى التي يتصارع فيها الخير والشر، والخداع والحقيقة، والنور والظلام، والشك واليقين؟
لقد ملأ «صناع العالم» من الفلاسفة والشعراء والروائيين، فضاء البشرية منذ فجرها أحلاماً بهية بمدائن فاضلة تصبح فيها الحقيقة هي الجمال، والجمال هو الحقيقة، ويرتفع في أفيائها الإنسان فوق شرطه الوجودي البائس، وارثاً كل ما راكمته الإنسانية من حكمة ومعرفة. أين مضى أولئك المجانين الذي عذبهم البؤس الإنساني، فصارعوه حتى ننتصر نحن في يوم موعود، ولو بعد قرون؟
أطنان من النظريات أكبر من الأرض، تحلل، وتفكك، وتستقرىء، وترسم خرائط ومعالم لنستهدي بها في ظلامنا الإنساني، ومناهج واتجاهات فكرية وفلسفية كبرى، تناقض بعضها البعض بحثاً عن صواب قد نمتلكه يوماً. لقد تجرع سقراط السم لأن الحقيقة كانت أغلى من الحياة، لكن الحال ما يزال هو هو بعد قرون. كأن كل شيء تبخر فجأة، ونحن غافلون.
نعم، هناك تقدم علمي وطبي وفضائي هائل، ولكن بالمقابل هناك تقهقر إنساني وأخلاقي هائل أيضاً. أين تكمن المشكلة؟ لم يعد هذا السؤال يؤرق الفلاسفة والمفكرين المعاصرين كما يبدو، ولم تعد مهمة الفكر والفلسفة تفسير العالم لنا، كما كانت عبر التاريخ، إذا لم نتحدث عن مهمة تغييره، بل أصبحت مهمتهم، أمام هول ما يرون، هجاء عصر التفاهة هذا، زمن الحداثة السائلة، وكأنهم سلموا تماماً بالمقولة الشهيرة التي تقول «كل ما هو ليس صلداً يتحول إلى هباء»، ولا شيء صلداً في زمننا هذا كما يبدو ليبنوا عليه شيئاً ما. نظام التفاهة وحده يعمل جيداً.
لعل من أكبر منجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة تحقيقها درجة متقدمة جداً من الحرية الفردية، وصونها وحمايتها قانونياً، ولكن بالمقابل كانت تجري تحت السطح عملية سحق كبرى لكل القيم الحقيقية التي تجعل الإنسان إنساناً، خصوصاً في هذه المرحلة الأخيرة من تطورنا المتوحش... ونقول «المرحلة الأخيرة»، التي قد تستمر بدورها آماداً طويلة، لأنه لا شيء يمكن أن يكون بعدها سوى بربرية ترتدي ثياباً عصرية مزركشة.
السؤال الأكبر الذي يواجه البشرية الآن - لكنها، بعد، لم تطرحه على نفسها، ربما خشية من هول المواجهة-: ما الذي جرى ويجري؟ لماذا لم تتحقق معادلة التوازن بين التقدم المادي والتقدم الروحي؟
في الحوار معه المنشور في هذه الصفحة، يعتقد المصمم الكندي الشهير بروس ماو، أن الحل يكمن في العودة إلى «روح عصر النهضة»، أي إلى عملية الترابط أو الاقتران بين الفنون والتقنيات والعلوم. وبالطبع لا يمكن تحقيق هذه المعادلة المستحيلة من دون «فريق عصر نهضة»، كان يشمل شخصيات مثل ليوناردو دا فينشي، ومايكل أنجيلو وغيرهما، ممن برعوا في الرسم، والعمارة، والموسيقى، والتشريح، والهندسة، وعلم الفلك...
لكن ماو ينسى أن عصر النهضة ما كان ليتحقق من دون نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يشكل حاملاً مادياً له، كما حصل في كل عصور الازدهار الكبرى.
وإذا طبقنا فكرة ماو عربياً، من باب الفنتازيا، فعلينا العودة إلى روح العصر العباسي الأول 750 – 847، وإلى «فريق ذلك العصر» من أمثال ابن الهيثم، والرازي، وجابر بن حيان، والخوارزمي، والكندي، والفارابي، وابن سينا، وإخوان الصفا... إلى آخر القائمة الطويلة.
لقد سبق ذلك العصر العباسي عصر النهضة في تحقيقه الترابط بين العلوم الطبية والرياضية والفلكية، والفيزيائية والكيميائية والهندسية والزراعية، وبين الشعر والموسيقى والعمارة، وفي الوقت نفسه اقترن ذلك العصر بكل الحضارات الإنسانية... والشيء الأهم أن تلك «الروح العباسية»، لم تبق محصورة عمودياً بل تسربت أفقياً إلى كل مناحي الحياة، وفئات المجتمع جميعاً، وغزت المكتبات والمدارس والمساجد، محققة في رأينا الحداثة العربية الحقيقية الأولى، وهل الحداثة غير ذلك؟ لكن تلك الروح انطفأت مع انهيار البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان يرفعها... وما زال الحال هو هو منذ ذلك العصر الضائع!