د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

قصص أميركية

بعد فترة قصيرة سوف يجري حدث مهم في مدينة جدة، حيث يلتقي رئيس الولايات المتحدة جوزيف بايدن، قيادات تسع دول عربية في لقاء غير مسبوق من حيث القيمة التاريخية؛ اللهم إلا إذا أعدنا إلى الحسبان اللقاء الذي جرى في 14 فبراير (شباط) 1945 بين الرئيس فرانكلين روزفلت مع العاهل السعودي الملك عبد العزيز آل سعود في البحيرات المرة المصرية على ظهر الطراد «كوينسي».
كان العالم وقتها كما هو الآن يواجه أحداثاً حرجة للحرب العالمية الثانية التي باتت في فصولها الأخيرة، وكان الرئيس الأميركي عائداً لتوّه من مؤتمر يالطا الذي قرر مصير العالم بعد الحرب. الآن سوف يأتي الرئيس الأميركي في أعقاب مؤتمر مع الدول السبع الكبرى اقتصادياً في العالم عُقد في «إلماو» الألمانية، ومع قادة حلف الأطلنطي في العاصمة الإسبانية مدريد؛ وكلاهما كان للتعامل مع مصير العالم في أثناء وبعد انتهاء الحرب الروسية - الأوكرانية. وعندما يلتقي الرئيس بايدن القادة العرب سوف تكون القصة الأوكرانية هي الحاكمة لرؤيته، وبدايتها اجتياح روسيا لدولة «ديمقراطية»، هدد الأمن الأوروبي وأنهى سلاماً قائماً في القارة الأوروبية بصورة لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. لقاءات الدول السبع لم تعد لمراجعة الحالة الاقتصادية لدولها أو للعالم، وإنما لمعالجة قضايا كبرى تتعلق بالطاقة، والتأكد من أن تكون نهاية الحرب هي نهاية روسيا كمصدر تهديد للقارة، فهي لن تعود مرة أخرى كما كانت روسيا القيصرية، وبالتأكيد ليس في أثناء وجود الاتحاد السوفياتي.
ومن هذه الزاوية سوف تكون النظرة إلى الشرق الأوسط والمدى الذي وصل إليه التغلغل الروسي، والصيني أيضاً. الخريطة العالمية باتت فيها ثلاث قوى: الغرب الذي تقوده أميركا، وروسيا، والصين. إيران ليست قوة عظمى، وإنما هي تحدٍّ ومصدر تهديد؛ ولهذا كان هذا اللقاء.
القصة الثانية قديمة نوعاً ما وجذورها تعود إلى التاريخ الخاص للرئيس الأميركي من أول عضويته في مجلس الشيوخ في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وحتى الآن حيث بات رئيساً للولايات المتحدة. الرحلة من الناحية السياسية جاءت مشبعة بالحرب الأميركية في فيتنام، وكيف أن الخروج منها استوجب أن تعود أميركا إلى أصولها الأولى لا تتورط في صراعات، وإنما تقدم نموذجاً ديمقراطياً ليبرالياً للعالم. حالة «النموذج» هذه لا بد أن تكون مسلحة عسكرياً واقتصادياً بما يجعلها ليست القوة العظمى الأولى في العالم فقط، بل في التاريخ. ولم تكن هناك صدفة أنه في كثير من خطبه وكتاباته في أثناء الحملة الانتخابية قسّم العالم إلى فريقين: الديمقراطيين والسلطويين. لن يكون في ذهن بايدن شك أنه في جدة سوف يكون متحدثاً مع الفريق الثاني بغضّ النظر عن ظروفه وتطوره التاريخي وإصلاحاته الكبرى؛ ولكن ما يهمه سوف يكون الانتصار في المعركة العالمية –روسيا والصين- وبعد ذلك سوف يكون لكل حادث حديث. هو يريد حل مشكلة الطاقة لأغراض اقتصادية عالمية، ويريد علاقات أعمق مع إسرائيل لحسابات داخلية أميركية.
القصة الثالثة أن أميركا تتغير كما تتغير كل دول العالم، وبغضّ النظر عمّا فعله الرئيس الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط، فإن الحقيقة السياسية الأميركية الأولى هو أن الولايات المتحدة لا تعيش عصر بايدن، وإنما حقبة ما بعد ترمب. النظام السياسي الأميركي له قدرة كبيرة على الاستدامة حتى بعد ذهاب الرئيس، ليس فقط لأن أفكاره باقية، وإنما لأنه وضع الأساس لاستمرارها من خلال المحكمة الدستورية العليا ذات الأعضاء التسعة الذين لهم القدرة على البقاء والقضاء ما داموا يريدون ذلك، لمدى الحياة، أو للمدى الذي تسمح به قصة القاضي أو القاضية، أو حتى يحين قضاء الله.
ترمب لم يترك السلطة إلا وقد أصبح له من أتباع أفكاره ستة من القضاة الذين لهم الأغلبية والقدرة على قلب الحياة الأميركية رأساً على عقب. الأصل في الفكرة الديمقراطية أنها تقوم على قدرة التوافق بين الكتل السياسية المختلفة، وفي قضية سابقة عندما كان ليبراليون أغلبية أباحت المحكمة الإجهاض (قضية رو ضد ويد) بحيث يكون حقاً في الدولة الفيدرالية الأميركية كلها. ولكن ذلك كان في محكمة سابقة، وجاءت المحكمة اللاحقة لكي تلغي الحكم السابق، وتضع القاعدة الجديدة التي تقبلها ولايات وترفضها ولايات أخرى. النتيجة فتح أبواب جهنم، فهل يجوز للراغبين في الإجهاض الذهاب إلى الولايات الأخرى المتسامحة، أم أن الجريمة واجبة العقاب في عموم الدولة؟ هي معركة سياسية وقضائية تقسّم أميركا أكثر مما هي منقسمة، وتفتح الأبواب لقضايا أخرى تتعلق بحمل السلاح الذي يبيحه الدستور، ولكنه من جانب آخر يقتل الأطفال في المدارس، والسود في مراكز التسوق.
القصة الرابعة تربط الرئيسين: ترمب وبايدن، أحدهما بالآخر كأن أقدارهما ملتصقة. خلاصتها تدور حول ما حدث يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2020 حينما كان على الكونغرس التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، والتي جرى التصديق عليها من الولايات واللجان الفيدرالية الخاصة بالانتخابات. ترمب منذ الانتخابات التمهيدية السابقة التي رشحته للرئاسة حاول أن يرسي حقيقة كاذبة قوامها أن الحزب الديمقراطي يزوِّر الانتخابات؛ وحينما كسبها نسي الحكاية، ولكنه بمجرد الخسران عاد إليها داعياً أنصاره الكثر من التنظيمات الإرهابية والعنصرية المتنوعة أن تقوم بالهجوم على الكونغرس لمنع التصديق المنتظر. وأكثر من ذلك وفي صباح اليوم المنتظر ذهب شخصياً مع أتباعه ومعاونيه لكي يخطب فيهم، مطالباً إياهم بإنقاذ الديمقراطية الأميركية من التزوير الديمقراطي، وأن يكون لديهم الشجاعة ورباطة الجأش التي بها يذهبون إلى داخل الكونغرس لفرض إرادة الشعب. وكان ذلك ما جرى، وفشل الهجوم، وصدّق الكونغرس على النتيجة، ولكن الأمر كان فيه قتلى، وتدمير منشآت عامة، وبدأ التحقيق الجنائي، ومعه تحقيق آخر قامت به لجنة من مجلس النواب استدعت الشهود وحققت في الوقائع، والآن خرجت إلى الرأي العام لكي تسجل الحقيقة التاريخية. المعضلة هنا هي أن الحزب الجمهوري وقفت منه أقلية إلى جانب الدفاع عن مصداقية انتخاب الرئيس الجديد، أما الأغلبية فوقفت إلى جانب أن الانتخابات زُورت، وقررت أن ما فعله الجمهور الغاضب المتعصب هو في الحقيقة «مجرد رأي» ويمارس «حرية التعبير». القصة كلها في دوامها وتفاصيلها وحتي يحين تمامها، لن يكون فيها الكثير من الدفاع عن الديمقراطية، أو حتى إدراك ما تحتوي عليه الفكرة الديمقراطية من عوار «الشعبوية» و«طغيان الأغلبية» و«فساد الأقلية» الحاكمة، وإنما سيكون فيها بقوة هائلة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الذي يفصح بدوره عن قصة أخرى سوف تكون حاكمة لمستقبل الرئيس بايدن.
العرف الأميركي هو أنه على الأرجح يفوز حزب المعارضة في انتخابات التجديد النصفي، وهو ما يؤدي إلى شلل الجالس في البيت الأبيض أو أن يحكم عن طريق قرارات تنفيذية يستطيع الرئيس التالي أن ينقضها، وساعتها لا يتهدد الاستقرار وحده، وإنما تصبح الديمقراطية في اختبار قاسٍ.