إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

محاكمة حزام لم ينفجر

طوال سنوات سجنه، التزم الصمت. ابتلع لسانه وتقمص دور الأخرس. نصحه محاموه بالكلام وأرشدوه إلى تبريرات قد تخفف من الحكم عليه. استمر في عناده فتخلوا عنه. كان صلاح عبد السلام يدرك حجم ما ارتكب ويعرف أن الإفراج معجزة. سيبقى وراء تلك الجدران السميكة ما بقي له من عمر. وقبل يومين، في ختام جلسات محاكمته، طلب المدعي العام الحكم عليه بالمؤبد الذي لا يقبل التخفيف. يعني لن يخرج بعد خمسة وعشرين عاماً ولا بعد خمسين.
شاب في أول ثلاثينياته. أسمر متوسط القامة يشبه الآلاف من أبناء المهاجرين. ليس لديه علامات فارقة تلفت النظر. ولعل هذا هو ما كان يجعله يفلت من الشرطة في كل المرات التي استوقفوه فيها للتفتيش. وصمته الوحيدة أنه الناجي الوحيد من بين إرهابيي تفجيرات 2015 في باريس. فجّر رفاقه، وبينهم شقيقه، أحزمتهم الناسفة عند مدخل الملعب الكبير. فتحوا نيران رشاشاتهم على الجالسين في المقاهي، وعلى جمهور مسرح «الباتكلان». قتلوا 130 بريئاً وماتوا معهم.
وحده صلاح عبد السلام لم يفجّر حزامه. رمى به في حاوية للزبالة. كما تخلص من رشاشته. وحين انفكت عقدة لسانه، أخيراً، في المحكمة، قال إنه تراجع لأسباب «إنسانية». لم يشأ أن يقتل أناساً عُزّل من السلاح. هرب بعد العملية واستنجد بأصدقاء أوصلوه إلى بلجيكا. كان قد ولد ونشأ هناك. أبوه مغربي عاش في الجزائر أيام الاستعمار ويحمل الجنسية الفرنسية. وكذلك أمه. قصدا أوروبا طلباً للرزق حين طلبت السلطات مهاجرين مغاربة للعمل في الأشغال العامة. أي الشاقة. ما الذي يجعل شاباً ولد لأسرة مستورة مراهقاً منفلتاً، مدمناً، سارقاً وقاتلاً؟
طورد صلاح في بلجيكا لاشتراكه في أعمال إرهابية. ثم نقل بسيارته عدداً من الإرهابيين إلى باريس ليلة المقتلة الشهيرة. كان اسمه مدرجاً على قوائم المطلوبين الخطرين لكنه يفلت من ثقوب الشبكة. استمر هارباً لمائة وعشرين يوماً بعد العملية. دوهم ووقع في قبضة الشرطة البلجيكية. وجرى تسليمه للسلطات الفرنسية. هدية مسمومة. كان على الفرنسيين أن يحيطوه بإجراءات أمن استثنائية. هناك من آباء الضحايا من يريد الانتقام منه. وهناك من أنصاره من يخطط لتهريبه من السجن. نصبوا له في الزنزانة كاميرا تراقبه ليل نهار. خصصوا ثمانية حراس متفرغين له. أرسلوا إلى وزير العدل في باريس تقريراً يفيد بأن تكلفة احتجاز صلاح عبد السلام تبلغ 36 ألف يورو في الشهر. والأدهى من ذلك أنهم اضطروا لنقله إلى بروكسل لكي يحاكم عن أفعاله هناك. حكم عليه قاضٍ بلجيكي بالسجن لعشرين عاماً وأعادوه إلى سجنه الفرنسي.
بعد خمس سنوات على العملية بدأت محاكمته مع عدد من المشتبه بمساعدتهم للإرهابيين. هيأوا للجلسات قاعة خاصة في قصر العدل تتسع لألفي شخص من أهالي الضحايا ومن الصحافيين. وطوال أسابيع حاول المتهم الرئيسي أن يسبغ على نفسه صفات المجاهد المهم في تنظيم «داعش». ولم يرفع عيناً لينظر في وجوه عشرات الثكالى والأرامل والأيتام الذين تتابعوا للإدلاء بأقوالهم. دموع كثيرة وآهات وصور ملونة من سنوات ماضية. ذكريات عائلية سعيدة تجمدت ذات مساء خريفي رائق.
دفع صلاح عبد السلام عن نفسه «عار» الجبن والنكوص. استفزت أقواله الأهالي. لكنه في اليوم الأخير اعترف بأنه التحق بمجموعة باريس قبل يومين من التنفيذ. وقد درّبه شقيقه على استخدام الرشاش والحزام الناسف. الحزام الذي لم ينفجر لخلل تقني كما يشير أحد التقارير. والحكم في آخر الشهر. والسينما تتفاوض لشراء حقوق القصة.