رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

القصور اللبناني في بناء الدولة: الترسيم البحري نموذجاً!

لم يعد الحديث المتواصل عن أهميّة خطة وطنيّة للدفاع في لبنان من باب الاستهلاك السياسي والإعلامي، ولم تعد الظروف تسمح لمزيد من المراوحة والتسويف في هذا الملف الذي غالباً ما تسبّب باحتدام الصراع السياسي في البلاد وأدّى إلى توتير الأجواء وتسميمها دون طائل.
الأكيد أن لبنان بحاجة ماسة لحشد كل الطاقات والإمكانات المتاحة للدفاع عن أراضيه وسيادته، وأنه - رغم ضعف قدراته الذاتيّة مقارنة بشقيقته الأكبر سوريا - لا يستطيع أن يتبنّى مقاربة نظامها للصراع مع العدو، لا سيّما تلك المقولة الشهيرة التي يكرّرها بعض الرموز ألا وهي «الاحتفاظ بحق الرد»، وهو الشعار الذي أصبح بمثابة نكتة سمجة مع تكرار الاعتداءات بصورة شبه يوميّة على «السيادة» السوريّة، أو ما تبقى منها.
والأكيد أن لبنان لا يريد الحرب ولا يسعى إليها، هذه على الأقل رؤية الغالبيّة الساحقة من أبنائه الذين، رغم رفضهم للسياسات الإسرائيليّة العدوانيّة وحقد تل أبيب التاريخي ضد لبنان، فإنهم لا يحبّذون تكرار سيناريو «لو كنت أعلم»، الذي برّر به حزب الله حرب يوليو (تموّز) 2006 التي أدّت إلى سقوط نحو ألفي شهيد وآلاف الجرحى ودمار شامل بالبنى التحتيّة اللبنانيّة.
السؤال الجوهري هو: أليس هناك من مساحة يمكن بناؤها تعزّز في الوقت ذاته القدرات الدفاعيّة اللبنانيّة من دون أن تُسقط من يد الدولة القرار المركزي في الحرب والسلم؟ ألا يمكن للبنان أن يصل إلى مرحلة تحتكر فيها دولته السلاح أسوةً بكل دول العالم؟ من قال إن قيام الدولة في لبنان يقع على طرفي نقيض مع قدرته على حمايه نفسه؟ بالعكس تماماً. هذان الاتجاهان يسيران سويّاً، وبذلك يتحقق الهدف الأساسي المتمثل بقيام الدولة وبحماية الأرض والسيادة.
التطورات الأخيرة في ملف التنقيب عن النفط بالمنطقة البحريّة غير المرسمة بين لبنان وإسرائيل، تؤكد مرة جديدة أن قصور الدولة اللبنانيّة عن بناء خطة وطنيّة للدفاع من شأنه أن يُبقي «قواعد» اللعبة خارج السيطرة. لا تحتاج إسرائيل إلى الكثير لكي تخوض تجربة عسكريّة جديدة ضد لبنان تؤدّي، مرة جديدة، إلى وقوع مزيد من الخسائر وإلى تعميق القعر الذي يغرق فيه حاليّاً نتيجة استفحال الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة وتدهور العملة الوطنيّة نحو مستوياتٍ غير مسبوقة.
إن إدخال ملف بحجم ترسيم الحدود البحريّة في «بازار» المناكفات السياسيّة المحليّة اللبنانيّة الضيّقة كتلك المتصلة بحرب الصلاحيّات بين الرئاسات، على سبيل المثال، من شأنه أن يضيّع الحقوق السياديّة اللبنانيّة، وأن يولّد توتراتٍ غير مرغوب فيها مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن يؤخر أي حلول منتظرة لقضيّة مناقشة خطة دفاعيّة وإقرارها بما يتلاءم مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة أولاً وأخيراً.
كما أن سياسة التردد والمراوحة وكسب الوقت التي اعتُمدت من فريق رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ميشال عون، طمعاً في رفع العقوبات الأميركيّة عن صهر الرئيس حوّل قضيّة وطنيّة بأبعادها الاستراتيجيّة والاقتصاديّة والماليّة، وتحويلها إلى ورقة مقايضة رخيصة، يُربط فيها مستقبل البلاد بالمستقبل السياسي لشخص بذاته. إنّها الدناءة السياسيّة بعينها.
لا يحتمل لبنان مزيداً من الاعتداءات الإسرائيليّة، ولا يحتمل أيضاً أن تكون معادلة توازن الردع، على أهميّتها وعدم جواز التفريط فيها، خارج مؤسساته الدستوريّة والرسميّة، تماماً كما أنه لا يحتمل مزيداً من الممارسات الساذجة في السياسة، وهي في غالبيتها قائمة على سياسات النكد والابتزاز والشعبويّة والطائفيّة والمذهبيّة.
إذا كان العام الحالي هو عام إعادة تكوين السلطة في لبنان، فإن المحطة الأهم (بعد حسم مسألة تأليف الحكومة الجديدة) يتصل بانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وأن يكون الاختيار قائماً على معايير واضحة ومحددة معاكسة للمعايير الحاليّة، وذلك يعني أن يكون الرئيس الجديد يتسّم بالاعتدال، ولا يعيش عقدة «الصلاحيّات» وافتعال المعارك الوهميّة التي لا طائل منها، والأهم من كل ذلك أن يدرك طبيعة التركيبة اللبنانيّة وتعقيداتها المحليّة وتشابكاتها الخارجيّة.
اللبنانيّون يبحثون عن رئيس فاعل ومسؤول، فلنخرج من مقولة «الرئيس القوي»، فقد رأى الشعب برمته ماذا فعل هذا الرئيس «القوي»!