داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

هل حقاً أن كل الطرق تؤدي إلى روما؟

شهدت أوكرانيا في الأشهر الثلاثة الأخيرة تفجيرات متعمدة لجسور، سواء من قبل القوات الروسية أو من قبل القوات الأوكرانية نفسها. فقد أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية يوم 12 مايو (أيار) الحالي تدمير جسرين عبر نهر سيفرسكي دونيتس لمنع تقدم القوات الروسية من منطقة لوهانسك. بينما كشف مسؤول أوكراني عن قيام الروس بتدمير 8 جسور ذات أهمية حكومية. كما تم تدمير جسور لعبور قطارات السكك الحديدية. ونقلت قناة فرانس 24 أن أوكرانيا تخوض حرباً جسوراً في مواجهة الجيش الروسي مع استمرار الحرب. وذكرت وزارة الدفاع البريطانية أن البنى التحتية الأوكرانية تعرضت إلى أضرار كبيرة بسبب القصف الروسي الذي شمل تدمير جسور وتفخيخ طرق خلال انسحابها من مواضعها السابقة قرب العاصمة الأوكرانية كييف.
أنتجت بريطانيا في عام 1957 فيلماً يُعتبر من أيقونات السينما البريطانية عنوانه «جسر على نهر كواي» مأخوذاً من رواية كتبها بيير بول ومن إخراج ديفيد لين. وتدور أحداثه أثناء الحرب العالمية الثانية في معسكر ياباني للأسرى البريطانيين في جنوب تايلاند، حيث يُجبر الأسرى على بناء جسر خشبي على نهر كواي لعبور قطارات الجيش الياباني خلال الحرب، إلا أن الأسرى خططوا لتفجيره بعد استكمال بنائه. المفارقة الفنية في هذا الفيلم المتميز أن الذي خلده ليس كاتب القصة المبدع ولا نجومه الكبار ولا مخرجه المعروف، لكنها الموسيقى التصويرية الفريدة التي تحمل اسم «الكولونيل بوجي»، وهي من نوع المارشات العسكرية الخاصة بسير الجنود النظاميين. لقد نال الفيلم 7 جوائز أوسكار بينها أفضل موسيقى تصويرية.
وفي التاريخ العربي القريب اشتهر جسر الجنرال البريطاني إدموند اللنبي، ويعود تاريخه إلى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وقد شُيد في عام 1885 من قبل الدولة العثمانية بإشراف متصرفية القدس، وكان مصنوعاً من خشب الأشجار، إلا أنه تضرر من الفيضانات وزلزال نابلس والحرب العالمية الأولى. وأدى الجسر دوراً مهماً في نقل السلاح والمؤن إلى فلسطين قبل الاحتلال، وتم تدميره من قبل عصابة إسرائيلية في عام 1946 بقيادة حاييم بارليف الذي سُمي خط الدفاع الإسرائيلي في سيناء على حافة قناة السويس باسمه بعد نكسة 1967، واسم هذا الجسر الحيوي الذي أعيد بناؤه في عام 1988 جسر الملك حسين الذي يربط الضفة الغربية بالأردن ويبعد عن عمان 60 كم. وخلال الانتداب البريطاني على فلسطين في عام 1946 شنت منظمة «الهاجاناه» اليهودية ومنظمات صهيونية أخرى عمليات تفجيرات استمرت يومين تحت عنوان «ليل الجسور» استهدفت تدمير 11 جسراً تربط فلسطين بلبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر لشل حركة المواصلات بين الدول العربية ومنع دعم الفلسطينيين بالأسلحة، ومن هذه الجسور جسر الحاوي على نهر اليرموك وجسر اللنبي. وفي أحد هذه التفجيرات خسرت عصابة البالماخ الصهيونية 14 قتيلاً.
وندع التاريخ جانباً ونعود إلى الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا وتداعياتها على دول الجوار. فبعد أن حاولت النمسا لعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا لوقف إطلاق النار استناداً إلى علاقات المستشار النمساوي كارل نيهامر الوثيقة مع الكرملين، فشلت في ذلك، ولم تنجح زيارة المستشار إلى موسكو في 11 أبريل (نيسان) الماضي، وعلى العكس من ذلك انتقد سياسيون نمساويون الدور الجيوسياسي الذي يمكن أن تلعبه النمسا في إعادة «بناء الجسور» بين روسيا والغرب. وهي جسور سياسية قبل أي شيء آخر تعرضت لانهيارات متلاحقة منذ بدء الحرب على أوكرانيا، وفرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الغربية على روسيا. وحين عاد المستشار من موسكو تفاجأ كثيرون بالدعم النمساوي الفوري لعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، كما قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية؛ فقد تبرعت بستين مليون يورو للمنظمات غير الحكومية لمساعدة أوكرانيا وتبرعت أيضاً بالخوذات والسترات الواقية والوقود، بالإضافة إلى استقبالها أكثر من 66 ألف لاجئ أوكراني رغم أنها دولة صغيرة.
ووجه الغرابة في نسف الجسور الروسية – النمساوية أن فيينا كانت أصبحت صديقة بشكل خاص للكرملين، حتى أن دول أوروبا الشرقية وصفت النمسا بأنها «حصان طروادة» الروسي في أوروبا. ولاحظ المراقبون أن فيينا كانت أول عاصمة غربية ترحب بزيارة بوتين بعد أن قام بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا في عام 2014.
ومع استمرار الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا فإن المصالح الاقتصادية بين روسيا والنمسا لا تزال ضخمة، إذ تحصل فيينا على 80 في المائة من غازها الطبيعي من روسيا، وتُعد روسيا ثاني أكبر مستثمر أجنبي في النمسا بعد ألمانيا، باستثمارات بلغت 214 مليار يورو في عام 2020، كما أن الروابط الثقافية لا تزال وثيقة؛ إذ يلعب الروس أدواراً رئيسية في المؤسسات الثقافية والفنية النمساوية. ويقول سيمون مراز الدبلوماسي الذي أدار المركز الثقافي النمساوي في موسكو لمدة 12 عاماً: «نحن مفتونون بثقافة تبدو مألوفة جداً، لكنها لا تزال غريبة جداً».
ذهب المستشار النمساوي نيهامر إلى موسكو متفائلاً بحكم علاقته الوثيقة ببوتين، وعاد يشعر بالتشاؤم قائلاً في تصريح مُعلن: «إن بوتين تبنى بالكامل منطق الحرب».
هذا عن الجسور المقطوعة... فماذا عن الجسور القائمة؟ يقول المثل العالمي الشهير: كل الطرق تؤدي إلى روما. وها هي إيطاليا تسعى إلى بناء «جسر السلام» بين روسيا وأوكرانيا عبر خطة من أربع مراحل لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وبالتشاور مع الولايات المتحدة والفاتيكان والصين والهند وتركيا والأمين العام للأمم المتحدة. ونوقشت الخطة مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وفي موسكو قال الناطق بلسان الكرملين ديمتري بيسكوف إن «روسيا مستعدة للتجاوب مع هذه الجهود المخلصة». وكشف رئيس الوزراء الإيطالي كما قرأنا في صحيفة «الشرق الأوسط» عن أنه اتصل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليقول له: «أتصل بك لكي نتحدث عن السلام». ورد عليه بوتين: «الوقت ليس مناسباً» وكرر بوتين الجملة مرة أخرى.
ومثلما أن للجسور أهميتها في ربط الأجزاء المتقابلة لضفاف الأنهار والجزر المنعزلة، فإن لها أهميتها الخاصة في الحروب، وهي هدف استراتيجي يجب حمايته من تدميره أو احتلاله، أو في بعض الظروف تتولى الدولة صاحبة الجسر تدميره بنفسها لمنع العدو من السيطرة عليه وعبور قواته الغازية أو منع وصول الإمدادات العسكرية والتموينية إليه، إلا أن كل لغات العالم تستخدم كلمة «جسر أو جسور» في علاقات التعاون الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي، وتطورت إلى استخدامات سياسية وعسكرية، وسمعنا في السنوات الأخيرة عن جهود وكالة «ناسا» الأميركية لمد جسر إلى الفضاء الخارجي وجسور بين محطات فضائية ثابتة من جنسيات مختلفة، إلا أننا الآن في انتظار الجسر الإيطالي الذي قد يربط حلقات السلام من جديد بين موسكو وكييف. وبالتأكيد سترفض أوكرانيا وروسيا أي تنازلات، فهذه هي الخطوة الأولى قبل أي تسوية.