حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

ثلاثة مسارات بعد الانتخابات اللبنانية

حدث جلل شهدته الانتخابات النيابية اللبنانية. لا تنحصر أهميته في وصول عدد من النواب «التغييريين» الذين يعلنون الانتماء إلى انتفاضة 17 تشرين 2019 فحسب، ولا في تسجيله الخسارة الأولى منذ ثلاثين عاماً في قوائم الثنائي الشيعي الجاهزة والمعلبة، بل أيضاً في وضعه المشهد اللبناني بمجمله أمام امتحان عسير.
يُعبّر عن الامتحان هذا على مستويات عدة. أولها موقف «نواب الثورة» كما يُطلق عليهم من مسألة «حزب الله» وسلاحه ومغامراته الخارجية. أكثرية النواب الجدد الآتين من ساحات التظاهر والاحتجاج تعترض على ما يمثله الحزب من خروج على حصرية حق الدولة في ممارسة الأدوار العسكرية والأمنية. بعض منهم يدعو إلى الحوار كطريقة لعلاج هذه المعضلة في حين يرى آخرون ألا مخرج من الاستعصاء المذكور قبل بناء مؤسسات الدولة بناء قوياً يجعل الحزب وسلاحه في تعارض تام مع القانون والنظام. ولم يكن مفاجئاً أن أول تعليقين لممثلي «حزب الله» جاء من رئيس كتلته النيابية محمد رعد الذي حذر نواب الانتفاضة من جرّ البلاد إلى حرب أهلية ملوحاً بالقوة الهائلة التي يتمتع الحزب بها، فيما شدد النائب في الكتلة ذاتها حسن فضل الله على أن موضوع السلاح غير مطروح على مائدة أي حوار وأن على المعترضين أن ينسوا أمره.
غني عن البيان أن التهديدات المبطنة والصريحة لن تسحب ظاهرة الحزب وحمايته لمنظومة الفساد بل قيادته لها، من التداول. ليس من باب الإصرار على «النكد السياسي»، على ما يرغب الناطقون باسم الحزب وأتباعه القول، بل من باب أن قسماً كبيراً من اللبنانيين بات مدركاً للترابط العضوي بين التفاقم المستمر للأزمة الاقتصادية وتمادي انهيار المجتمع ومؤسساته وبين حيلولة «حزب الله» دون اتخاذ أي خطوة إصلاحية يرى فيها مساً به وبحلفائه.
المستوى الثاني من سلسلة الامتحانات المقبلة، هو موقف الطائفة السنيّة من العلاقة مع الحزب. فالخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه «تيار المستقبل» بتبنيه مقاطعة الانتخابات أطاح من بين ما أطاح به الموقف السني المهادن للحزب. فمقولات من نوع «ربط النزاع» و«تجنب الفتنة» وخوض عشرات من جلسات الحوار مع ممثلين عن الميليشيا المسلحة، لم تسفر سوى عن تغول الحزب المسلح وتعزيز سعيه إلى اختراق كل الطوائف الأخرى عبر إنشاء كيانات سياسية تابعة له وتمويلها وتوظيفها في صفوف الجماعات الرافضة لمنطقه وأسلوبه. يضاف إلى ذلك امتناع الحزب عن أي مراجعة لما قام به من اعتداءات وانتهاكات بحق الآخرين.
وبذلك وجد سياسيون عديدون من الطائفة السنيّة ألا مفر أمامهم، إذا أرادوا الاستمرار في تمثيل شارعهم من رفع سقف الخطاب المناهض للحزب إلى مستويات لم تكن معروفة سابقاً سوى عند بعض الشخصيات المعزولة. بذلك، بات على أي سياسي سني أن يعلن صراحة ما يشبه العداء التام لكل سياسات الحزب طمعاً في أن يظل على تماس مع نبض أناس يرون أن فاعلاً واحداً يقف وراء مجموعة من الكوارث تبدأ مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري ولا تنتهي مع إطلاق الرعاع ضد المتظاهرين السلميين ضد الفساد في شوارع بيروت، مروراً باستباحة العاصمة فيما صنفه الأمين العام للحزب «يوماً مجيداً» في السابع من مايو (أيار) 2008.
المستوى الثالث يتلخص فيما يُسمى «الغطاء المسيحي» لـ«حزب الله». معروف أن حجر الزاوية في الغطاء هذا هو «تفاهم مار مخايل» الذي وقعه حسن نصر الله وميشال عون عن الحزب و«التيار الوطني الحرّ» في 2006. وبات اليوم الخيط الوحيد الذي يربط «حزب الله» بالداخل اللبناني من خلال تحالف مع قوة مسيحية وازنة بعدما تآكلت علاقاته الأخرى وسقوط أتباع كانوا يصنفون أنفسهم «وطنيين» و«قوميين» وما شاكل. نتائج انتخابات 15 مايو أصابت الغطاء المسيحي بصدوع عميقة بعد تقدم «القوات اللبنانية» لاحتلال مركز الممثل الأكبر للطائفة المارونية وللمسيحيين عموماً. وساهمت أخطاء خصوم العونيين في إرجاء الانهيار الكامل للتيار وتدمير الغطاء المسيحي المذكور برمته.
بيد أن النجاحات التي حققها «التيار الوطني الحر» في الاحتفاظ بعدد من المواقع المهمة لا تنفي وصوله إلى حائط مسدود سواء في التعامل مع باقي المسيحيين أو في قدرته على التحكم في العملية السياسية في لبنان على النحو الذي مارسه في السنوات القليلة الماضية. وبذلك سيضع «حزب الله» في موضع المضطر إلى تكثيف مساعدته للتيار مع ما يلحق بذلك من اعتماد العونيين المتزايد على نفوذ الحزب وسطوته لتمرير مشاريعهم وخططهم.
ولا يصعب الوصول إلى استنتاج أن اجتماع العناصر المذكورة كلها، سيضع «حزب الله» في مواجهة شرائح واسعة من اللبنانيين وسيكون أمام خيارات سيملي أكثرها ما سيستجد في الإقليم سواء من ناحية العلاقات الإيرانية - الخليجية أو الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب. وفي حال لم تتجه المسارات هذه إلى الوجهة التي تسمح للحزب بالحفاظ على موقعه المهيمن على لبنان وحياته السياسية، فتجربة حرب تموز 2006، تبدو قابلة للتكرار بافتعال صراع مدمر يعيد الأمور إلى نقطة الصفر ويسمح بإنتاج صيغ جديدة من السيطرة على لبنان واللبنانيين وإغراق الجميع في لجج الفقر والجوع والهجرة.