هي ليست المرة الأولى التي تقع فيها مواجهات من هذا النوع بين الحركات والأحزاب الإسلامية التركية بسبب تباعد الخيارات وتضاربها والصراع على السلطة حتى بين الحلفاء، لكنها المرة الأولى التي تدخل فيها جماعة فتح الله غولن نزاعا من هذا النوع يهدف لإسقاط إردوغان وحكومته، كما يقول المواطن التركي في استطلاعات الرأي، لكنه يتحول تدريجيا إلى مواجهة بقاء على قيد الحياة في حرب تكثر فيها عبارات الفتنة والافتراء والتشهير والطعن من الخلف.
انفجار 17 ديسمبر (كانون الأول) الماضي مهد له توتر 7 فبراير (شباط) عام 2012، لكن العديد من المتابعين يرون أن الاحتراب هذا الأسبوع سيطر عليه سيناريو تفاهم بعيد عن الأضواء يظهر إلى العلن بين جماعة غولن و«الشعب الجمهوري» المعارض ومجموعات القوميين اليساريين الذين دعموا لسنوات المؤسسة العسكرية في حربها على «العدالة والتنمية» والجماعات الدينية، وأن الهدف النهائي هو إسقاط حكومة إردوغان وإبعادها عن السلطة من خلال الضرب على الوتر الحساس؛ ملفات الفساد والرشى والمحسوبيات.
لكن الجديد الأهم كان التلويح من قبل أحد أبرز أقلام الجماعة الأكاديمي ممتاز آر تورك أونه ومن خلال طرح ردده دون لف ودوران حول ضرورة لعب ورقة حظر «العدالة والتنمية» بسبب خروجه عن الدستور وقانون الأحزاب السياسية، مع أن الكاتب شخصية معروفة بطرحه الديمقراطي واعتداله وعلاقته المميزة بحزب إردوغان الذي اختار زوجته نائبة في البرلمان السابق، وتقدم هو الآخر بطلب ترشيح في آخر انتخابات باسم العدالة والتنمية التي لم توافق على طلبه هذا.
ونقاش من هذا النوع يعيدنا عقدا كاملا إلى الوراء في مسار اللعبة الديمقراطية والتعديلات الدستورية الأخيرة وجهود التشدد في قضايا حظر الأحزاب وإغلاقها، وأن الطرح يأتي من قبل أحد النافذين في صفوف الجماعة.
الجديد الآخر هذا الأسبوع كان استطلاعات رأي نشرت في الأيام الأخيرة تلتقي كلها (باستثناء استطلاع الجماعة) عند نسبة 48 في المائة من مجموع أصوات الناخبين تقف إلى جانب إردوغان وحزبه وتحمل مسؤولية أحداث ديسمبر للجماعة بنسبة 58 في المائة، وتعطي غولن وحركته قوة دعم وتأييد لا تزيد على ثلاثة في المائة في حال تحركه باتجاه تأسيس حزب سياسي يعمل باسم الجماعة.
الجديد أيضا كان تفاعل مسألة قطع الطريق على الشاحنات المتجهة إلى الداخل السوري في عملية يشرف عليها، ويقودها جهاز المخابرات التركي في إطار حملة مساعدات للأقلية التركمانية في سوريا كما أوضح مجبرا. فالسلطات التركية أعلنت أنها حددت هوية المخبر الذي قدم هذا البلاغ الكاذب، الذي كاد يشعل اشتباكا بين قوات الدرك التي رفعت السلاح في وجه عناصر المخابرات وكبلتهم واعتقلتهم أمام أعين المواطنين، ومجموعات من الوحدات الخاصة تحركت لمساندة رجال المخابرات لولا أوامر من كبار القيادات السياسية والعسكرية نجحت في قطع الطريق على الاشتباك.
التطور الآخر كان فشل الجماعة في الرهان على الرئيس التركي عبد الله غل في الوقوف إلى جانبها بعدما دعته قياداتها للتحرك وممارسة صلاحياته حيال ما يجري، فرد بما لا يعجبها كثيرا: «وهل أنا لا أمارس صلاحياتي التي منحني إياها الدستور؟»، في إشارة إلى أنه مع الحكومة في حربها على الدولة الموازية داخل الدولة، كما قال هو نفسه أكثر من مرة.
اللافت هذا الأسبوع كان أيضا توسيع رقعة العمليات وساحات المواجهة عبر إقحام الخارج من خلال تحركات ونقلات لقيادات «العدالة والتنمية»، بدأها إردوغان نفسه بزيارات إلى بروكسل وألمانيا ولقاءات مع القيادات الفرنسية والروسية والإيطالية، شرح خلالها موقف حكومته حيال ما يجري مطالبا دعم هذه الدول، وتحذيرها من استعدادات للجماعة لاستخدام أوراق سياسية ومالية ومنظومة علاقات بنتها هناك ضد «العدالة والتنمية».
لكن النقطة الأكثر إثارة تبقى طبعا كشف الإعلام التركي المقرب من الحزب الحاكم عن مثلث تحرك استراتيجي للجماعة، تستخدمه بوصفه قواعد لجمع المعلومات وتخزينها حول ملفات سياسية وأمنية تتعلق بالداخل التركي وتشمل هذه البقعة فيلادلفيا وديترويت وفرجينيا في الولايات المتحدة، وأنه جرى تنشيط هذه المواقع بعد أزمة «7 فبراير» خلال محاولة الاصطدام بجهاز المخابرات التركية ورئيسه مباشرة في عملية عرض عضلات فاشلة واضطرار الجماعة لنقل أرشيفها من الداخل التركي إلى هذه الأماكن، كما تقول وسائل الإعلام هذه. ويبقى السؤال قائما هنا: كيف سترد واشنطن على هذه المزاعم وكيف ستتعامل معها خصوصا إذا ما تحركت أنقرة لطلب توضيحات حول معلومات موثقة تثبت حجم تنقل قيادات «الخدمة» بين جوانب هذا المثلث الذي يصفه البعض بـ«مثلث برمودا» آخر.
جديد هذا الأسبوع أيضا كان إنجاز حكومة «العدالة والتنمية» جملة من الإصلاحات والتغييرات في تنظيم عمل مؤسسات ومراكز تأهيل الطلاب سبب الأزمة الأهم مع غولن وحركته، وإحالتها بوصفها مشروع قانون يعرض على البرلمان، وإصدار تعديلات جذرية في قانون الإنترنت تدعو المعارضة والجماعة الرئيس التركي لعدم المصادقة عليها لتعارضها مع أسس الحريات الفردية، بينما تتمسك الحكومة بحاجة البلاد إلى تدابير جديدة تقطع الطريق على هذه البقرة الحلوب التي تسيء يوميا إلى حياة مئات الأفراد نتيجة نشر صور وأفلام وتسجيلات تمس حياتهم الخاصة.
وربما لا تفوتنا هنا الإشارة إلى آخر المعلومات التي نشرت حول التنصت على رئيس الوزراء، وتحديد الفاعلين الذين يقال إن بينهم أشخاصا كانوا يتولون حماية إردوغان نفسه، وربما تطورات هذا الملف ستكون الأكثر تأثيرا في الحقبة المقبلة عندما تعلن نتائج التحقيقات ويحال الملف إلى القضاء.
الجماعات والقوى الإسلامية والمسلمة في تركيا أمام أصعب امتحاناتها، فالبعض بدأ يروج لسقوط مشروع الإسلام السياسي في تركيا، وأن هذه المؤسسات نشطت ولعقود طويلة من أجل الوصول إلى الحكم مع إردوغان في مطلع عام 2000، لكنها تفرط اليوم في كل ما وصلت إليه ليس بسبب مواجهة تدخلها مع القوى العلمانية والأتاتوركية؛ بل من خلال حرب مشتعلة داخل صفوفها هي حول تقاسم السلطة والنفوذ، والرابح هنا سيكون خاسرا في جميع الأحوال كما يرى العديد من الكتاب.. العلمانيين.
8:32 دقيقه
TT
غولن ـ إردوغان.. جديد «داحس والغبراء»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة