وضعت روسيا أمامها اليوم مهمة اجتثاث النازية في أوكرانيا حيث تشكل هذه الآيديولوجيا الراديكالية تهديداً لأمن روسيا لا يقل عن تهديد الفاشية الألمانية للاتحاد السوفياتي
كما هو معروف، خاضت شعوب الاتحاد السوفياتي بين عامي 1941 و1945 حرباً دموية ضد ألمانيا الفاشية، كلّفها الانتصار فيها حياة 26.6 مليون شخص (من عسكريين ومدنيين)، بمَن فيهم من الروس والأوكرانيين. بيد أنه من بين الأوكرانيين أيضاً، كان هناك العديد من القوميين الراديكاليين الذين بدأوا في خدمة الفاشيين الألمان، وأظهروا قسوة لا تصدق تجاه مواطنيهم، واستخدموا أساليب القمع الوحشي ضد الذين لم يشاركوهم أفكار النازية الأوكرانية المبنية على الكراهية للبشر. لقد عملت منظمة القوميين الأوكرانيين المتطرفة، التي كان أشهر زعمائها ستيبان بانديرا (1909 - 1959)، وبعض العصابات الأخرى، على ترهيب السكان المحليين.
للأسف، انتعشت الحركة القومية الراديكالية من جديد في أوكرانيا الحديثة، وباتت تحول أسماء الجلادين من الروس والأوكرانيين إلى أبطال، وتشيّد النصب التذكارية لهم، وتسمي البلدات بأسمائهم.
لن أخوض في الأسباب الكامنة وراء نمو هذه الحركة، حيث لعب دعم القوى الخارجية دوراً مهماً في ذلك، معوّلين بهذا على استخدامها لإضعاف روسيا. بطريقة أو بأخرى، بعد الانقلاب المناهض للدستور عام 2014، أصبح دورها حاسماً في نظام السلطة، وباتت التشكيلات المسلحة لمجموعات مثل «القطاع الأيمن» و«أيدار» و«أزوف» تتفوق على الجيش من حيث الفاعلية القتالية. لقد أدت أفكار النازيين المعادية للروس، بعد أن أخضعوا هياكل الدولة لسلطتهم وحظروا اللغة والثقافة الروسيتين، رغم أنهم كانوا أقلية في المجتمع الأوكراني، إلى حقيقة أنهم عملوا على مدى السنوات الثماني الماضية، على إبادة السكان بشكل منهجي في المناطق ذات الغالبية الروسية (دونيتسك ولوغانسك) عبر القصف المستمر لهذه المناطق.
لا أنوي هنا إقناع أي شخص على الإطلاق بقبول وجهة النظر الروسية بشأن الأحداث، بل أريد فقط أن أشرح بإيجاز سلسلة الأحداث التي أدت إلى العملية الخاصة الاضطرارية للقوات المسلحة الروسية لحماية السكان الروس في أوكرانيا ومنع هجوم مسلح وشيك على روسيا، الذي كما اتضح لاحقاً، كانت أوكرانيا تستعد له. ومن بين الأهداف ذات الأولوية للعملية: ما يسمى «اجتثاث النازية»، أي إزاحة النازيين من المناصب القيادية في المجتمع، والحظر الكامل لأفكارهم المبنية على الكراهية للبشر، وتصفية تشكيلاتهم المسلحة، وتحديد ومعاقبة مجرمي الحرب الذين كانوا قد نكّلوا بالناس على مدى ثماني سنوات وقتلوهم، حيث وصلت وقاحتهم لدرجة أنهم صوروا ونشروا على الإنترنت ما قاموا به مؤخراً من تعذيب وتنكيل للجنود الروس، ومنع تمجيد الجلادين النازيين من الماضي، وما إلى ذلك. المهمة صعبة للغاية وتتطلب وقتاً وجهداً حثيثين.
والآن، القليل من التاريخ.
حتى في بداية الحرب العالمية الثانية، قبل هجوم هتلر على الاتحاد السوفياتي، وفي 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1939، ألقى رئيس الحكومة السوفياتية والمفوض الشعبي، أي وزير خارجية البلاد، فياتشيسلاف مولوتوف، وهو، بالمناسبة، الجد لأحد النواب في الدوما (البرلمان) والمذيع التلفزيوني الأكثر شهرة في روسيا اليوم، الذي يحمل اسمه فياتشيسلاف نيقونوف، كلمة في جلسة استثنائية لبرلمان الاتحاد السوفياتي (مجلس السوفيات الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية) قال فيها إن «الآيديولوجيا الهتلرية، مثلها مثل أي نظام آيديولوجي آخر، يمكن الاعتراف بها أو إنكارها، فهذه مسألة آراء سياسية. لكن أي شخص سيفهم أن الآيديولوجيا لا يمكن القضاء عليها بالقوة، ولا يمكن إنهاؤها بالحرب. لذلك، ليس من العبث فحسب، بل ومن الإجرام شن حرب مثل الحرب من أجل (القضاء على الهتلرية)، تحت راية زائفة بهدف النضال من أجل الديمقراطية».
بيد أنه لم يكن هناك خلف هذه الكلمات، المعتدلة لدرجة غريبة بالنسبة لعصرنا، تواطؤ مع هتلر، بل كان هناك -حصراً- حساب عملي. فالزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، الذي كان مدركاً تماماً لحتمية الصدام العسكري مع ألمانيا الفاشية، وأن الدول الأنغلو ساكسونية (ناهيك عن فرنسا) لن تتسرع في مساعدة موسكو على أي حال، عوّل حينها على تأخير الصدام مع النازيين قدر المستطاع، ولم يكن يرغب بعد في مفاقمة العلاقة معها. لكن كل شيء تغير بسرعة. وفي 22 يونيو (حزيران) 1941، عندما هاجم هتلر الاتحاد السوفياتي غدراً، أطلق مولوتوف، متحدثاً في الراديو، على الحرب مع ألمانيا الهتلرية اسم «الحرب الوطنية العظمى»، حيث شن الاتحاد السوفياتي مع الحلفاء خلال سنوات هذه الحرب، أي في 1941 - 1945، حرباً على وجه التحديد من أجل القضاء على الهتلرية وهزيمتها الكاملة. لكن السؤال هنا: هل كان الانتصار العسكري على الفاشية الألمانية، الذي حققته موسكو عام 1945، انتصاراً في الوقت نفسه على آيديولوجيتها؟
لا يبدو الأمر كذلك؛ إذ إنه لمثل هذا النصر، وكما يشير اليوم الخبير الروسي في القضايا الفاشية، بوريس خافكين، متفقاً مع كلمات مولوتوف على أنه «لا يمكن القضاء على الآيديولوجيا بالقوة، ولا يمكن إنهاؤها بالحرب»... كانت هناك حاجة إلى اجتثاث النازية في ألمانيا عبر «تطهير الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية من إرث النظام النازي، وتحديد ومعاقبة مجرمي الحرب النازيين والنشطاء من الاشتراكيين القوميين». في الحقيقة، لم تصل العملية هناك إلى النهاية المنشودة.
وقياساً بهذا الماضي غير البعيد تحديداً، وضعت روسيا أمامها اليوم مهمة اجتثاث النازية في أوكرانيا، حيث تشكل الآيديولوجيا القومية الراديكالية لأولئك الذين يمجدون الفاشيين من الماضي، تهديداً لأمن روسيا لا يقل عن تهديد الفاشية الألمانية للاتحاد السوفياتي في أوائل أربعينات القرن الماضي. وبسبب هذه الظروف بالتحديد، فإنني على يقين بأن روسيا لن تتراجع عن طلب اجتثاث النازية في أوكرانيا خلال عملية المفاوضات مع الجانب الأوكراني.
بالمناسبة، يمكن مقارنة أوجه الشبه بين آيديولوجيا النازيين الأوكرانيين وأفكار المدافعين عن «داعش» و«القاعدة» والمنظمات الدينية المتطرفة الأخرى، المحظورة قانوناً في روسيا. وها نحن نرى الشيء نفسه، نصراً عسكرياً تم تحقيقه بشكل أساسي (وإن لم يكن مائة في المائة)، بيد أن الأفكار وأنصارها بقيت على حالها. فنحن بحاجة إلى نوع من اجتثاث التطرف (مشابه لاجتثاث النازية)، الذي تشارك فيه معظم الدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية الدولية.
يتنافس علماء السياسة في التنبؤات، فهي لا تعد ولا تحصى. ويقترح عالم السياسة الروسي سيرغي كورغينيان، الذي يقدم أحياناً تنبؤات واثقة للغاية، أن المجموعة العسكرية الروسية، التي ينبغي تعزيزها «ستنهي جيب دونباس بحلول يونيو»، وسيتم نقلها بالكامل إلى محيط نيقولايف (على مسافة 40 ميلاً من ساحل البحر الأسود، على طول مصب نهر بوك الجنوبي) وإلى أوديسا (الميناء على ساحل البحر الأسود، حيث تقع القاعدة الرئيسية للقوات البحرية الأوكرانية)، وستحل جميع المسائل في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب)، ثم، كما يزعم كورغينيان، ستتوجه الجبهة الجنوبية بأكملها في التحرك شمالاً، وفي غضون شهرين أو ثلاثة أشهر «ستزحف إلى الحدود المطلوبة... وستستولي عليها».
لم يحدد كورغينيان ما الذي ستستولي عليه بالضبط. مع ذلك، يشير مرتكزاً على رأي شخصية قيادية كبيرة لم يحددها في القوات المسلحة الروسية، إلى أنه «يجب أن نبسط السيطرة على أوكرانيا بأكملها». أنا مندهش للغاية من مثل هذه التصريحات، لأنه لا أحد يعرف خطط القائد الأعلى للقوات المسلحة، كما ينبغي أن يكون في مثل هذه الحالات. لذلك، كل هذا، كما يقول الروس، هو «قراءة في الفنجان» لا أكثر. ومع ذلك، فهو جزء من حرب المعلومات. ويبدو أن روسيا قد تعلمت كيفية استخدامه جيداً للضغط على العدو، الذي يُغرق، بالمعنى الحرفي، الفضاء الإعلامي بقصص مزيفة سخيفة لم يعد بإمكان أحد تصديقها، مثل قصة جثث السكان الذين قتلوا على يد القوميين المتطرفين الأوكرانيين أنفسهم، ثم نثرت جثثهم في شوارع بلدة بالقرب من كييف بعد أيام قليلة من انسحاب القوات الروسية من هناك.
لكن، بعد ذلك، يتابع العالم السياسي حول الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لنا قائلاً: «ثم يجب تحويل هذه الأرض التي تم بسط السيطرة عليها إلى وضع ما في ظل اجتثاث النازية من دون أي إيمان بصداقة الشعوب... كل هذا سيكون لعبة (طويلة الأمد)، وكل من سيفكر بشكل مختلف فهو مخطئ تماماً».
* خاص بـ«الشرق الأوسط»