كفاح محمود
TT

هل لا يزال طلب العلم من الصين متاحاً؟

رغم أن المقارنات لا تعطي نتائج مقبولة إذا ما كانت الظروف بين طرفي المقارنة مختلفة، إلا أنها تضع خريطة طريق تُظهر نقاط الضعف والقوة ومكامن الخلل والمتانة بين الطرفين إذا ما كانا متقاربين في ظروفهما، خصوصاً ما يتعلق بنمو وتطور المجتمعات وبيئتها الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى تطور نظامها السياسي كدول أو كيانات، وهذا ما يبدو جلياً في مقارنتنا بين مجموعتين من الدول والمجتمعات، فما بين الصين وبعض من شقيقاتها في جنوب شرقي آسيا، وبين العراق ومصر وشقيقاتهما من دول الشرق الأوسط، مسافات بعيدة جغرافياً لكنها قريبة جداً في طبيعة مجتمعاتها ومواصفاتها التكوينية وموروثاتها الحضارية والفلكلورية، ورغم هذا البعد والقرب في كلتا الحالتين لكن هناك فرقاً هائلاً في التطور الذي حصل فيهما منذ نهاية أربعينات وخمسينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
إن موضوع المقارنة يثير الكثير من التساؤلات رغم أن الأمر لا علاقة له بإجابة أو وجهة نظر، بقدر ما هو عملية بحث عن خلل بنيوي يتعلق بجملة من المرتكزات الأساسية في البناء والتركيبات التربوية والاجتماعية، وربما العقائدية، وما يلحق بها من عادات وسلوك متوارث، ناهيك عن التأويلات والتفسيرات لكثير من النصوص والعقائد والنظريات في مجتمع لا يزال يرتبط عضوياً بالبداوة والزراعة، وما يتعلق بهما من قوانين وضوابط وارتباطات، ولذلك ذهبنا إلى محاولة لمقاربة مجتمعات هي الأقرب في ظروف تكويناتها وطبيعة تركيباتها الاجتماعية والاقتصادية.
ففي نهاية أربعينات القرن الماضي، تحديداً في عام 1949، سجل التاريخ السياسي والاجتماعي للشعوب حدثاً مهماً في قارة آسيا، وهو انطلاق الثورة الصينية العارمة التي قادها الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ، ولم تمضِ إلا ثلاث سنوات حتى سجلت قارة أفريقيا حدثاً كبيراً آخر قاده أحد الضباط الثوريين في يوليو (تموز) 1952، في واحدة من أقدم ممالك العالم ألا وهي مملكة مصر وارثة ممالك الفراعنة التي أسقطها الزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر، في ثورة غيّرت وجه الشرق الأوسط برمته، بل وجه أفريقيا وحركاتها التحررية فيما بعد، والمثير أن الثورتين الصينية والمصرية تصنفان على يسار الحركة السياسية في العالم آنذاك، وهناك الكثير من التشابهات بين الدولتين والشعبين فيما يتعلق بالتاريخ والحضارة التي تمتد في كلتيهما إلى عدة آلاف من السنين، إضافة إلى التشابه في نسبة الأمية والفقر العالية قياساً لكثافة السكان، مع انخفاض مريع لإنتاجية الفرد والمجتمع إبان قيام الثورتين، وربما بعدهما بسنوات ليست طويلة ما حدث في كوريا، ثم قيام الثورة العراقية في يوليو 1958، والكثير من هذه الدول وأنظمتها الاجتماعية المحافظة، وما جرى فيها خلال عدة عقود من الزمن المزدحم بالإنجازات في بعضها والمتقهقر في بعضها الآخر؟ لقد خاضت حكومات وشعوب تلك الدول حروباً وصراعات وانقسامات وانقلابات وثورات كثيرة متشابهة أحياناً ومختلفة إلى حد ما في أحيان أخرى، لكنها رغم ذلك وبعد ما يزيد على سبعين عاماً بقليل استطاعت أن تُحدث تغييراً نوعياً كبيراً في مسار تقدمها وشكل ومضمون حضارتها، وبالذات في الصين العظمى والصغرى في تايوان والأصغر في هونغ كونغ، وما حصل من تطور مذهل في كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، ومن هنا حيث نقطة الشروع واحدة، وفي ظل ظروف تكاد تكون متطابقة يبرز السؤال الأهم عن الفروقات بين المجموعتين، وما حصل خلال ذات الحقبة الزمنية من تقهقر مريع وحصاد هزيل في بلداننا، وكيف غدت دول مثل مصر والعراق وسوريا ومن ماثلها في الشرق الأوسط وبإمكانيات ليست قليلة إن لم تكن عظيمة، غدت متأخرة تتقهقر في كل مناحي الحياة قياساً مع المجموعة الثانية في الصين الصغيرة منها والعظمى، وما نتج في كوريا وكثير من بلدان جنوب شرقي آسيا التي لا تختلف كثيراً عن دولنا وشعوبنا؟ ورغم أن المقارنة متعبة ومؤلمة أيضاً لكن يبقى السؤال عن ماهية مراكز القوة في المجموعة الأولى، وكيف قدمت هذا المنتج المذهل المبهر في كل من الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، بينما وبالفترة نفسها تقريباً ومع اشتراك المجموعتين بظروف متشابهة تقهقرت دول الحضارات القديمة مصر والعراق وسوريا، لدرجة اقتراب العراق وسوريا من الضياع، فأين تكمن إذن نقاط الضعف والخلل التي تسببت في هذا الانهيار والتقهقر والانكفاء؟ الأسئلة كثيرة ومؤلمة، وتحتاج إلى مكاشفة وجرأة قبل الولوج في الإجابة، تحتاج إلى تشخيص الداء قبل وصف الدواء، وذلك يستلزم تحديد مكامن الخلل بجرأة وشفافية، خصوصاً عند إجراء مقارنة بين دولنا وبين الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وبقية هذه المجموعة، حتى ننجح في وضع خريطة طريق للأجيال القادمة لا تعتمد ذلك الكم الهائل من الموروث المربك، وما يلحقه من عادات وتقاليد ونظريات وتأويلات اجتماعية ودينية أثبتت فشلها على أرض الواقع، بل كانت المعوق الأساسي لتقدمنا، والسبب الرئيسي لفشل كل أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويبقى السؤال هل لا يزال طلب العلم متاحاً من الصين، أم أنه يقع في باب التأويل (حرامٌ أم حلال)!؟