ليونيل لورانت
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

الديمقراطية الفرنسية عالقة في «أزمة»

يقف إيمانويل ماكرون على مقربة من تحقيق إنجاز تاريخي بالفوز برئاسة فرنسا لفترة ثانية بعد فوزه في الجولة الأولى على منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان. وعليه، ينبغي للمستثمرين الشعور بالارتياح الآن، لكن لا يجب أن يرضوا ويخنعوا، لأن الجولة الثانية المقررة في 24 أبريل (نيسان) ستشهد تنافساً حامي الوطيس.
وتكشف النتائج الأولية أن الأحزاب المعبرة عن المؤسسة الفرنسية في حالة يرثى لها. والواضح أن جمهور الناخبين المتشرذم على نحو متزايد، يبحث عن إجابات جديدة بعد جائحة فيروس «كوفيد ـ 19»، وبعد أن تسببت الحرب في أوكرانيا في زيادة نطاق المظلة الحمائية للدولة دون أن يفلح ذلك في تهدئة المخاوف من ارتفاع معدلات التضخم.
وسجلت عمدة باريس الاشتراكية آن إيدالغو نسبة مخيبة للآمال بلغت 1.5 في المائة، وسجلت فاليري بيكريس من يمين الوسط 5 في المائة ـ ما يمثل النتيجة الأسوأ على الإطلاق في تاريخ الحزبين.
اليوم، تبدو الجمهورية الخامسة في منطقة مجهولة، حيث تسببت قواعد تأييد كل من ماكرون ولوبان من الناخبين ذوي الياقات البيضاء والياقات الزرقاء على الترتيب في إحداث تغيير في مواقع معسكرات اليسار واليمين عما كانت عليه في القرن العشرين.
الواضح أن عملية تفريغ المركز تعود بالنفع على الراديكاليين من مختلف المشارب. جدير بالذكر هنا أن جان لوك ميلونشون من اليسار المتطرف، جاء في المركز الثالث بنسبة مبهرة بلغت 21.9 في المائة. في غضون ذلك، حصل إريك زمور المناهض للهجرة بشدة على 7 في المائة. حتى عندما حث ميلونشون أتباعه على إبقاء لوبان بعيداً عن السلطة، فإن قطاعاً كبيراً منهم يفكر في عكس ذلك في واقع الأمر: التصويت لصالح لوبان، أو الامتناع عن التصويت على الإطلاق، من أجل دفع ماكرون خارج الرئاسة.
وبسبب ظاهرة تغيير الولاءات وارتفاع أعداد المرشحين الساعين لمعاقبة النخب ـ حصل كل لوبان وميلونشون وزيمور على أكثر عن 50 في المائة من مجمل الأصوات ـ زادت صعوبة التنبؤ بتطورات المشهد السياسي الفرنسي، رغم أن هذا يتزامن مع فترة أصبحت فيها الدولة الفرنسية خلال فترة ما بعد جائحة كوفيد أكثر سخاءً عن أي وقت مضى. والواضح أن ماكرون سيجابه صعوبة في بناء هامش تصويت مريح من الناخبين المحبطين. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن استطلاعات للرأي قدرت حصة ماكرون من الأصوات في 24 أبريل (نيسان) عند 51 في المائة ـ 54 في المائة.
وحتى لو ظل ماكرون المرشح الأوفر حظاً، فإن تقدمه ضعيف ـ ومهدد ـ مقارنة بآخر جولة انتخابية رئاسية له ضد لوبان عام 2017، عندما سجل 66 في المائة.
بعد حملة انتخابية متواضعة رفض فيها مناقشة منافسيه، لن يكون أمام ماكرون خيار سوى محاربة خصومه وجهاً لوجه. بمقدور ماكرون القول إنه نجح في تحسين الظروف الاقتصادية وتعزيز النفوذ الفرنسي على المستوى الأوروبي، لكنه بالتأكيد مدرك لأن حماسة الإصلاحية السابقة لن تفلح في اجتذاب ناخبي لوبان المتطلعين نحو مزيد من الحمائية، أو ناخبي ميلونشون الذين يريدون إعطاء الأولوية لمحاربة التفاوتات.
من جانبها، أعربت كاثرين فيشي، التي تعمل لدى مؤسسة «كاونتربوينت» للاستشارات، عن اعتقادها بأن المواطنين يرغبون في الحماية، الأمر الذي سيجعل الفترة الثانية لماكرون مختلفة عن الأولى ـ خصوصاً أن تركيبة البرلمان في طريقها نحو التغيير.
في غضون ذلك، ستمثل لوبان خصماً قوياً أمام ماكرون. الملاحظ أن لوبان تنازلت عن بعض مقترحاتها السياسية الأكثر إثارة للقلق ـ مثل تعهدها الصريح بالخروج من الاتحاد الأوروبي ـ لصالح مقترحات أخرى مثل تقديم دعم مالي لمن هم دون الـ30. وبجانب محاولتها الفوز بأصوات اليسار المتطرف المتقلبة، تأمل لوبان كذلك في الاستفادة من الاضطرابات التي تعصف بحزب فاليري بيكريس، الذي انقسمت صفوفه حول من ينبغي لهم تأييده.
من ناحية أخرى، يراقب الدبلوماسيون في عواصم أوروبية أخرى بقلق الانتخابات الرئاسية الفرنسية، خصوصاً أن فوز لوبان سيكون بمثابة صفعة مدوية للاتحاد الأوروبي. وإلى جانب التأثير المباشر على المجهود الحربي الأوكراني لمرشح له علاقات ببوتين وسبق له توجيه سهام النقد إلى العقوبات ضد روسيا، ثمة خطر حقيقي يتمثل في حدوث الجمود المؤسسي واشتعال معارك داخلية حول الميزانيات وشروط التجارة وسيادة القانون. وتزيد دعوات لوبان لتفضيل السلع الفرنسية واستعادة السلطات من يد بروكسل، من مخاطر الانفصال الفعلي لفرنسا عن الاتحاد الأوروبي، حسبما ذكرت كريستين فيرجير، نائبة رئيس معهد جاك ديلور.
وسيتعين على ماكرون هنا كذلك أن يضع مشروعه الأوروبي مقابل مشروع لوبان، مع الحرص في الوقت نفسه على مقاومة الرغبة في التركيز فقط على تطرفها. جدير بالذكر أن صورتها كمرشحة تركز على القوة الشرائية للمستهلكين نجحت في تعزيز مكانتها لدى الناخبين. وسوف يتطلب تقويض هذا الإنجاز أكثر من أسبوعين.
المؤكد أن هذه الانتخابات تحمل في طياتها مخاطر كبرى فيما يخص أوروبا والعالم ككل، خصوصاً أن فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، بجانب كونها القوة النووية الوحيدة في الاتحاد في وقت تشهد فيه العلاقات الجيوسياسية والطاقة على مستوى القارة تغييرات جذرية. اليوم، نشهد تحرك التاريخ مرة أخرى، على حد قول أرنولد توينبي. وخلال الأيام المقبلة إما سنشهد دخول ماكرون التاريخ باعتباره أول رئيس في الجمهورية الخامسة يفوز بإعادة انتخابه منذ عام 2002، أو أول رئيس يخسر أمام اليمين المتطرف. المؤكد أن الديمقراطية الفرنسية عالقة في «أزمة».
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»