د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

مفارقات أزمة أوكرانيا وحرب اليمن

الجغرافيا والتاريخ والدول المجاورة للنزاعات تلعب دوراً أساسياً في تصنيف أبعاد أي نزاع ينشب في أي بقعة بالعالم. فالحرب العالمية الأولى التي اندلعت في قلب أوروبا، وامتداداتها إلى بعض مناطق الشرق الأوسط، أفرزت تغييرات جوهرية في موازين القوى العالمية، وفي تأسيس هياكلها المختصة في فض النزاعات؛ ببناء «عصبة الأمم» نتيجة «اتفاقية فرساي» في عام 1919، وتقاسمت الدولتان العظميان في تلك الفترة؛ بريطانيا وفرنسا، مكتسباتهما من الدولة العثمانية التي انهزمت، وذلك من خلال «مؤتمر سايكس - بيكو».
وباندلاع الحرب العالمية الثانية في قلب أوروبا نتج تراجع مكانة وقوة كل من بريطانيا وفرنسا، وحلت محلهما قوتان عظميان؛ هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ومن خلال «مؤتمر يالطا» جرى تقاسم مناطق النفوذ بينهما بشكل رئيسي، وتأسيس «منظمة الأمم المتحدة» بديلاً لـ«عصبة الأمم»، وإعطاء الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؛ وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا والصين، سلطات مرتبطة بها حصراً (حق النقض) في مجلس الأمن الدولي، الذي من مهامه الرئيسية حفظ السلم والأمن الدوليين.
وقد أدى تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات التي كانت منضوية فيه، وخروج دول أوروبا الشرقية من مظلة «حلف وارسو»، إلى تغير طريقة تعامل الغرب مع الاتحاد الروسي، كأن الغرب نسي أن الاتحاد قوة نووية كبرى، وهو ما يكرره دائماً في أحاديثه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مما يعني الشعور بالمرارة العميقة حول طريقة هذا التعامل؛ مرارة لا تقل عن مرارة القادة الألمان بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى والشروط المجحفة التي فرضت عليهم في «اتفاقية فرساي» لعام 1919.
وجاء عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، التي لطالما عدّها الكرملين جزءاً من روسيا، ودعمه مطالب انفصال منطقة دونباس عن أوكرانيا، ثم الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتركها لـ«طالبان» من دون الأخذ في الحسبان السلطة الشرعية التي كانت تحظى بالتأييد الغربي لها... فأدت تلك الأحداث إلى اقتناع الكرملين بأن كل ذلك يشكل بداية مرحلة مهمة لاختبار ردود الفعل الغربية إزاء استخدام القوة لفرض سياسة الأمر الواقع لتحقيق أهداف روسيا السياسية. وهذا ما استوعبته أيضاً الحركة الحوثية؛ أداة إيران في المنطقة في عام 2014 بفرض سياسة الأمر الواقع بالقوة في إطار الأزمة اليمنية لتحقيق طموحاتها المباشرة وتلبية طموحات إيران بالهيمنة على منطقة الخليج العربي.
وهكذا اتخذت روسيا قرار اجتياح قواتها أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي بعد فشل مساعيها في إقناع الولايات المتحدة والغرب عامة بأن قبول عضوية أوكرانيا في «الحلف الأطلسي» يعدّ أمراً يهدد أمنها القومي لملامستها القريبة حدود الدولة الروسية.
وللمرة الأولى، لوحت روسيا بالسلاح النووي في خضم هذا التحدي بينها وبين الغرب، مذكرة في الوقت نفسه باستخدام الولايات المتحدة قنابلها النووية على اليابان في هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية. من الواضح أن المشهد الدولي الراهن؛ الذي يوصف بأنه نسخة جديدة لحرب باردة من نوع آخر، يتجاهل في واقع الأمر بروز قوى إقليمية أخرى؛ منها القديمة مثل تركيا، والجديدة مثل إيران والثنائي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وقد كان لموقف الإمارات في مجلس الأمن، بصفتها عضواً غير دائم، بالامتناع عن التصويت على القرار الذي يدين اجتياح روسيا أوكرانيا، أثره البالغ في الموقف الروسي الذي تجنب استخدام «حق النقض» على القرار الذي أصدره مجلس الأمن في 28 فبراير الماضي تحت رقم «2624» والذي صنف جماعة الحوثي كياناً خاضعاً للتدابير المفروضة في الفقرة «14» من القرار «2216»، التي تشير إلى حظر الأسلحة ليشمل جميع الحوثيين بعدما كان مقتصراً على أفراد وشركات محددة. بالإضافة إلى ذلك، أدان القرار هجمات جماعة الحوثيين عبر الحدود على المدنيين والبنية التحتية المدنية في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ويطالب الجماعة بالوقف الفوري للأعمال العدائية، ووصف القرار، في إحدى فقراته، جماعة الحوثيين بـ«جماعة إرهابية»؛ وفق ما جاء في نص القرار الذي نشرته أخبار الأمم المتحدة.
وقال في هذا الخصوص المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، في بيان: «قرار مجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة في اليمن… ستكون له عواقب سلبية على عملية السلام، وسيزيد من تباعد المواقف بين أطراف النزاع».
من جانب آخر، قررت الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب تصنيف جماعة الحوثيين جماعة إرهابية، وإدراجها في قائمة الكيانات الإرهابية بالقائمة السوداء العربية لمنفذي ومدبري وممولي الأعمال الإرهابية.
وكان من اللافت في هذا السياق قرار الاتحاد الأوروبي إضافة الحوثيين إلى «القائمة السوداء للاتحاد»، مستنداً إلى تنفيذهم، خلال الفترة الماضية، هجمات أصابت المدنيين والبنية التحتية المدنية في اليمن، وعرقلتهم إيصال المساعدات الإنسانية، وكذا تطبيقهم سياسة العنف الجنسي والقمع ضد النساء، ومشاركتهم في تجنيد الأطفال… ومهاجمتهم السفن التجارية في البحر الأحمر بعبوات ناسفة وألغام تحت الماء.
ورغم كل هذه الإدانات الدولية من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ووزراء الداخلية العرب، فإن ذلك لم يمنع الحركة من استمرارها في اعتداءاتها على منشآت الطاقة السعودية؛ حيث شنت هجوماً في 19 مارس (آذار) الماضي على محطة توزيع المنتجات البترولية في جازان بطائرة مسيّرة، تبعه في اليوم التالي هجوم آخر على معمل ينبع للغاز الطبيعي، ثم مرافق «شركة ينبع ساينوبك للتكرير». ورأت المملكة أن هذه الاعتداءات لا تستهدفها هي وحدها؛ وإنما تستهدف كذلك زعزعة أمن واستقرار إمدادات الطاقة في العالم، كما تستهدف بالتالي الاقتصاد العالمي بشكل كلّي.
والسؤال المحير هنا: كيف مع كل ذلك وافقت الحركة الحوثية مؤخراً مع الحكومة الشرعية على هدنة مدتها شهران تدخل حيز التنفيذ في 2 أبريل (نيسان) الحالي ببداية حلول شهر رمضان الكريم، وذلك برعاية الأمم المتحدة؛ وفق البيان الصحافي للمبعوث الخاص، في حين أن الإحاطات السابقة للسيد هانس غروندبرغ أمام مجلس الأمن لم تكن تدعو إلى التفاؤل؟ هل لأحداث أوكرانيا دور في هذه الانفراجة؟ وهل داعمو الحوثيين في مواقفهم المتصلبة رأوا أمام أزمة النفط وارتفاع أسعاره أنهم في حاجة ماسة إلى استمالة السعودية والإمارات إلى جانبهم في الأزمة الأوكرانية بدلاً من وقوفهما موقف الحياد في الأزمة؟ أم إن قبول الحركة الحوثية الهدنة لا يعني بالضرورة تخليها عن مطامحها في الهيمنة على كامل التراب اليمني، وإن قبولها الهدنة مجرد فرصة لإعادة ترتيب أوضاعها وتحسين قدراتها العسكرية؟