أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

عن العولمة والحرب في أوكرانيا!

هل يصح ما أثير عن أن الحرب في أوكرانيا قد دشنت نهاية ظاهرة العولمة، أم يحمل هذا الاستنتاج الكثير من التسرع؟
سؤال يتواتر اليوم في ظل تقدم كتلة عالمية وازنة اقتصادياً، لمعاقبة روسيا ومحاصرتها وعزلها ليس فقط عن دوائر السوق العالمية وإنما أيضاً عن مختلف الأنشطة الإنسانية، ثم مع ارتفاع حرارة الدعوات لسياسة أوروبية تطمح إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي في مجال الطاقة والمواد الحيوية، للتخلص من حاجتها لاستجرار النفط والغاز، وتالياً مع بدء تفشي خيار الاكتفاء الذاتي، وانكفاء الجماعات البشرية للاحتماء بقواعدها الوطنية أو الإقليمية العتيقة.
من الصعب الاتفاق على تعريف دقيق للعولمة، إلا أنها عموماً، ظاهرة تتفاغر فيها على المستوى الكوني وبشكل واسع، أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك، ربطاً بنتائج الثورة التي شهدتها مجالات النقل والاتصالات الحديثة والأقمار الصناعية والإنترنت والفضائيات وتدفق المعلومات، ما سهّل التواصل والتفاعل بين الأمم والشعوب وقلل المسافات المكانية والزمانية، وحضّ على التحول من الممارسات والمعايير والقواعد المحلية إلى العالمية، من فناء وطني ضيق إلى باحة دولية واسعة، فارضاً على مختلف المجتمعات إعادة صياغة وجودها وتكييف خصوصياتها مع الحقائق الجديدة.
صحيح أن ظاهرة العولمة توغلت خلال العقود المنصرمة في حياة البشر، وحاولت أن تكسح في طريقها مختلف التكوينات التقليدية للمجتمعات أو تدفعها نحو العطالة والعجز عن الإتيان بأي فعل مثمر، وصحيح أن تداعيات الحرب الأوكرانية، ومن قبلها آليات التعاطي الأناني مع جائحة «كورونا»، قد هزتا أركان هذه الظاهرة هزاً قوياً، لكن يبقى من دواعي العدل والإنصاف الاعتراف بأن هذه الظاهرة تمتلك من القوة والثبات ما يجعلها عصية على الهزيمة والفناء، يحدو ذلك وجوب التمييز بين وجهين لها، موضوعي وذاتي، ولنقل وظيفي وسياسي، الأول ذو منشأ تاريخي يعبّر عن التطورات الموضوعية التي وصلت إليها البشرية وتشابك مصالحها واحتياجاتها وتالياً ازدياد ميلها نحو التفاعل والتلاحم، مع اتساع التحديات والمعضلات المشتركة التي تتطلب مواجهتها رؤية عالمية وجهوداً عالمية. بينما يمثل الثاني تعاظم دور قوى الهيمنة والاستئثار واستفحال سيطرة نخب احتكارية على مختلف مناحي الحياة، ما يهدد استقلال الشعوب ويضيق فرص تطورها وتنفيذ تطلعاتها وطموحاتها لبناء مستقبل واعد، كما يضعف قدراتها الخاصة لتحسين موقعها في سلم الحضارة الإنسانية. وأيضاً من دواعي العدل والإنصاف، الاعتراف بأن الوضعية التاريخية الراهنة لتطور ظاهرة العولمة تثير صوراً مختلفة ومتنوعة من التناقضات والصراعات لجهة اعتداء العولمة السياسية على الوظيفية، فأن تكون العولمة الوظيفية شرطاً موضوعياً لا راد له وحصيلة متطلبات استدعاها المستوى الراهن من تطور البشرية وقواها الإنتاجية والمعرفية، فإن العولمة السياسية، وللأسف، تتجه إلى ابتلاع هذه المتطلبات ذاتها وتسخيرها في خدمة مآرب النخب الخاصة وبرامجها في النفوذ والاستئثار والهيمنة.
لكن كما أرسى تطور نموذج الاقتصاد الرأسمالي الغربي، في أوروبا وأميركا، سيطرة الشركات العملاقة متعددة الجنسية، وأدى إلى تفكيك نسبي للأسواق القومية التقليدية وإجهاض قدرتها الإنتاجية الخاصة وجعل السياسة الحمائية أقل فاعلية، فإنه في المقابل أرسى صورة لعولمة تقترن بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مانحاً هذه القيم موقعاً واهتماماً لافتين في مناخات العقود المنصرمة، بينما سار الأمر على العكس تماماً في ظل آليات تطور الرأسمالية في روسيا والصين، واتخذ منحى آخر لا يستند إلى قواعد الحياة الليبرالية بل يروّج لدور الدولة المركزية القاهرة وتعزيز آليات الضبط الحكومي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فاتحاً الباب أمام صورة مختلفة للعولمة تستمد قوتها من ماضٍ استبدادي، يحاول الإفادة من التكنولوجيا ومواقع التواصل ومن الثروات المتراكمة وانفتاح الأسواق وتبادل السلع لفرض نمطه السياسي وتمويل مشروعات توسيع الهيمنة والنفوذ.
ما سبق لا يتطلب فقط التمييز بين وجهي العولمة الوظيفي والسياسي، وإنما أيضاً بين وجهيها الديمقراطي والاستبدادي، وتالياً المفاضلة بينهما واختيار أهون الشرين إن صح التعبير، مسترشدين بحقيقة أن الاستبداد بغيض وصنو الفساد والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان، بينما غاية الديمقراطية هي تظهير المشكلات وإدارتها ضمن تسويات وتوافقات تتجنب غالباً العنف، والأهم أنها ليست قيمة مجردة أو معزولة، بل ترتبط بالشرط السياسي والاقتصادي لتطور البشرية وتقدمها وبمصالح ملايين الناخبين، وتتوافق مع القيم الإنسانية المشتركة عن الحق والعدل والمساواة التي تشكل أساساً للتضامن بين الشعوب ولغة مشتركة تتخطى حدود العرق والقومية والطائفية.
واستدراكاً، من التسرع ركوب موجة التداعيات المرافقة لتطور الحرب في أوكرانيا للقول بانتهاء ظاهرة العولمة أو انتهاز الفرصة لرفضها ومقاومتها، لأن ذلك لن يتعدى شعارات أخلاقية تريح الضمائر فقط ولا تترك أي أثر نوعي للحد من تقدم هذه الظاهرة، بل من الأجدى القول بوجود مسؤولية تقع على عاتق مختلف الشعوب في التعاطي مع ما يرافق هذه الظاهرة الموضوعية من فرص وشروط بغرض تغييرها أو على الأقل تحسينها، بما يضعف تأثيرها السلبي ويعزز جوانبها الإيجابية، فوجه العولمة الموضوعي أو الوظيفي تيار جارف لا يمكن الانعزال عنه أو مقاطعته مهما تكن الأهداف مشروعة والنيات صادقة، بينما الانفتاح الجريء على العالم والقبول بخوض تحدي البقاء والمنافسة والتمسك بالقيم المشتركة والاستحقاقات الإيجابية للبشرية هو خير ما يعوق الوجه السياسي للعولمة ويجسر الهوة بين البلدان المتقدمة والمتخلفة التي يهدد توسعها خروج الأخيرة من التاريخ.
ويبقى الخيار الأصعب وأيضاً الأجدى، في مواجهة تعديات العولمة ومثالبها، وتجاه ما خلفه صناع الحروب من كوارث ومآسٍ، هو خيار البشرية لتطوير الأمم المتحدة ودورها في العملية الكونية، التي لا تزال تعاني عطالة وعجزاً مزمنين، في النظام القطبي الثنائي ثم في فترة التفرد الأميركي، على أمل أن تغدو مؤسساتها الأممية أشبه بحكومة عالمية لحفظ الأمن والسلم وهيئة تشريعية تسنّ قوانين الحقوق والمساواة وتراقب احترام الجميع لها، الأمر الذي يحتاج بداية، ربما، إلى عمل دؤوب لتعميم هذا الخيار وخلق قاعدة توافق بين مختلف الجماعات البشرية الرافضة والمناهضة لأشكال التفرد والاستئثار وأي توغل في منطق القوة والعنف أو التهديد بهما، والتشجيع على احترام قيم المساواة وحقوق الإنسان ودور المجتمع المدني ومنظماته الأهلية، لمحاصرة دول تغوّلت على حساب حقوق مواطنيها وأدوارهم.