د. ياسر عبد العزيز
TT

طوفان من الأكاذيب

لا تزال الأزمة الأوكرانية تبرهن على قدرات كبيرة وطاقة فائقة، تضعها ضمن أخطر الأزمات التي ضربت عالمنا على مدى عقود؛ إذ استطاعت أن ترهن العالم لتفاعلاتها، وأن تحبس أنفاس الناس، وتجبر القطاعات الأكبر من أفراد الجمهور العالمي على متابعة تفصيلاتها لحظة بلحظة، بعدما ثبت أن أقل تلك التفصيلات أهمية يمكن أن تطال تداعياته حياة البشر في أصقاع عديدة.
وفي أوقات الغموض والخطر، وعند اندلاع الأزمات الكبيرة، فإن ميل الجمهور إلى استقاء المعلومات والحصول على الأخبار يزداد باطراد. وفي تلك الآونة بالذات يتم استخلاص الدروس والعبر بخصوص مدى قدرة المنظومات الإعلامية المختلفة على تلبية حاجة الجمهور للحصول على معلومات دقيقة ومتوازنة، بما يبقيه في النور، ويُمكِّنه من تكوين الآراء وتبني المواقف، وربما اتخاذ القرارات.
ولأن الأزمة الأوكرانية تجسِّد المثل الأوضح لما يعنيه مصطلح «الحرب الهجينة»، فقد حفلت بقدر مذهل من التعويل على تجليات الحرب النفسية، وآليات «الدعاية السوداء»، و«الحرب السيبرانية»، والتضليل المعلوماتي.
ولسوء الحظ، فإن اندلاع تلك الأزمة جاء في وقت راجت خلاله فكرة أساسية ترى في مواقع «التواصل الاجتماعي» بديلاً لما يسميه البعض «الإعلام التقليدي»؛ أي الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعات ووكالات الأنباء.
ويمكن القول إن الوظيفة الإخبارية لمواقع «التواصل الاجتماعي» ظهرت كمحاولة للالتفاف على التعتيم الذي اتسمت به تغطيات «الإعلام التقليدي» في بعض الأحيان من جانب، وكنتيجة لتغول شركات التكنولوجيا العملاقة القائمة على إدارة تلك المواقع، ورغبتها في توسيع نطاق أعمالها لحصد مزيد من النفوذ والأرباح من جانب آخر.
لكن هذه الوظيفة شهدت أزهى عصورها، حينما تحولت تلك المواقع إلى «بنية أساسية اتصالية» في دول العالم كلها تقريباً، واستخدمها القادة والحكومات والمنظمات الدولية والمؤسسات الكبرى كوسيلة اتصال رئيسية.
توفِّر مواقع «التواصل الاجتماعي» لمستخدميها إمكانات هائلة، مقارنة بأي وسيلة إعلام «تقليدية»؛ إذ لا تُمكِّنهم فقط من تلقي الأخبار؛ بل أيضاً ستمنحهم القدرة على انتقاء ما يروقهم منها، وربما إعادة صياغتها، وتأطيرها، وبثها خلال ثوانٍ، ما داموا يمتلكون هواتف جوالة ذكية، أو أياً من الوسائط التقنية الأخرى، وصلة لـ«الإنترنت».
لكن، مقابل الميزات الكبيرة التي تتيحها تلك المواقع لمستخدميها؛ خصوصاً على صُعد السرعة والإيجاز والتفاعل وإمكانات البحث وقدرات التعبئة والتوجيه، ثمة كثير من السلبيات، منها أن تلك الوسائط لا تُخضع المحتوى الذي تبثه لأي شكل من أشكال التقييم أو المراجعة المُسبقة، ولا تُلزم من يبث هذا المحتوى بأي قدر من الالتزام، سوى ما يقرره طوعاً لذاته.
وحقاً، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب في أوكرانيا، بدأت الأخبار المفبركة والمُضللة في الظهور، وبصحبتها وسائل إبراز جذابة و«أدلة» مُصطنعة. وهو أمر تفوَّق فيه الجانبان المتصارعان تفوقاً ملحوظاً، بحيث بات من الصعب تبرئة كليهما من استخدام تلك الوسيلة، أو الحكم على أحدهما بربح «معركة التضليل» أو خسارتها.
وكما استخدم داعمو أوكرانيا ألعاب الفيديو لتلفيق مشاهد إسقاط المضادات الأوكرانية للطائرات الروسية، واصطنعوا «أسطورة شبح كييف» الذي «أسقط بقدرات استثنائية عديد الطائرات الروسية»، فقد لفق داعمو روسيا فيديو «يعلن فيه زيلينسكي استسلامه، ويدعو جنوده إلى إلقاء السلاح»، كما زيَّفوا مشهد اعتقاله في بيته، نقلاً عن واقعة حدثت في المكسيك قبل 6 سنوات، عندما جرى اعتقال تاجر مخدرات شهير.
وخلال الأسبوع الماضي، نشرت مؤسسة «نيوز غارد» المختصة بالتحقق من مصداقية المعلومات نتائج ما قالت إنه دراسة أجرتها على منصة «تيك توك»، مُعتبرة أن المنصة أخفقت في مواجهة نشر الأخبار المُضللة بخصوص الحرب الأوكرانية، وعجزت عن «فلترة المحتوى»، فضلاً عن أن «خوارزمياتها عززت المحتوى الأكثر انتشاراً حتى لو كان مُفبركاً».
في حال أُجريت دراسات محايدة ورصينة بخصوص الدور الإخباري لمواقع «التواصل الاجتماعي» الرائجة الأخرى خلال تلك الأزمة، فستكون النتائج على الأرجح مماثلة لما أمكن استخلاصه بشأن «تيك توك»، في ظل تركز جهود «الفلترة» في تلك المواقع على المتابعة اللاحقة التي لا تُحد من انتشار المحتوى الزائف بالقدر اللازم من جانب، وازدواجية المعايير والانتقائية التي تمارسها بسبب موقفها المبدئي المعادي للجانب الروسي من جانب آخر.
تحظى مواقع «التواصل الاجتماعي» اليوم بالحصة الأكبر من التعرض والتأثير والتفاعل الإخباري المواكب للأزمة الأوكرانية، ولذا أضحى الجمهور العالمي عرضة لطوفان من الأكاذيب التي ترد عبرها. وبسبب أنموذج أعمالها القائم على تعزيز التفاعل لجني الأرباح، وسياساتها الانتقائية الملتوية، فإن قدرة هذا الجمهور على فهم ما يجري، وتكوين رأي مناسب حياله تتراجع وتضمر.