أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

السوريون والحرب في أوكرانيا!

تتعدد مواقف السوريين من الحرب الدائرة في أوكرانيا، تبعاً لتعدد اصطفافاتهم واختلاف رهاناتهم حول نتائجها وما قد تخلفه تداعياتها من تأثير على حياتهم وخياراتهم.
فور إعلان الحرب، سارع النظام السوري ومن يلتفون حوله، إلى المجاهرة بتأييدها والترويج لمشروعيتها، على أنها تصحيح للتاريخ وبدء نهاية القطب الواحد المسيطر عالمياً الذي استهتر بمصالح موسكو وأمنها، كذا! ربما من باب الامتنان للدور الذي لعبته قيادة الكرملين في منع سقوط النظام ثم تمكينه، وربما من باب الرهان على أن يفضي انتصار موسكو وتوسيع نفوذها في أوروبا إلى إجبار الدول الغربية على تلطيف موقفها من المأساة السورية وتخفيف حدة العقوبات والحصار الاقتصادي، بما في ذلك الإذعان لمشروع الكرملين بتعويم السلطة الحاكمة والإطاحة بالمعالجة السياسية وقرارات الأمم المتحدة وفي مقدمها القرار (2254).
لكن صمود الأوكرانيين وتواتر ردود الفعل العالمية تجاه الحرب، لم يخدما رهانهم، فالتصعيد الغربي غير المسبوق ضد روسيا وشدة العقوبات التي فرضت عليها، سيقلقان بلا شك حكام دمشق ويزيدان من عجزهم عن إدارة أزمتهم الاقتصادية المتفاقمة، فكيف الحال بإعادة الإعمار؟! ما انعكس بمسارعتهم للترويج لتأثيرات تلك الحرب في سوء الأوضاع الاقتصادية، ربطاً بتشديد قبضتهم القمعية، إنْ عبر اعتقال ومحاصرة حتى أخفت الأصوات الناقدة، أو عبر سنّ قوانين ترهيب جديدة، كالعقوبة المستحدثة مؤخراً تحت ذريعة «النيل من مكانة الدولة المالية» وقبلها العقوبات القاسية التي تطول كل مَن ينتقد السلطة عبر منصات التواصل الاجتماعي! ولا يبدد هذا العجز محاولة بعض أركان النظام تدوير الزوايا والادعاء بأن تداعيات الحدث الأوكراني سوف تحررهم نسبياً من ضغوط قيادة الكرملين التي لن تكون بنفس القدرة على فرض مواقفها وإملاءاتها عليهم، ما يمنحهم هامشاً أكبر للتوغل في العنف والتنكيل.
في المقابل، أعلنت المعارضة السورية موقفاً عاماً رافضاً للحرب الروسية على أوكرانيا، لكن جماعاتها لم تكن على قلب واحد، بعضهم حاول تلطيف رفضه للحرب بإثارة ما يعتبره حق موسكو في الرد على تجاهل الغرب المزمن لمخاوفها وإدارة ظهره لمطالبها الأمنية، منهم من لا يزالون ملتزمين بمفاوضات سوتشي والآستانة ويراهنون على دور حاسم لقيادة الكرملين في فرض الحل السياسي، ومنهم من يناهضون التوسع الإيراني ويتحسبون من أن يفضي الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية إلى فسح المجال أمام إيران وميليشياتها كي تعزز انتشارها وسيطرتها في سوريا، أما البعض الآخر فقد دفع موقفه إلى آخر الشوط وشدد على إدانة تلك الحرب واعتبرها تعدياً ظالماً بقوة السلاح على سيادة دولة وحقها في تقرير مصيرها، مذكّراً بمرارة التدخل العسكري الروسي ضد إرادة الشعب السوري، لكن غالبية هؤلاء لا يمتلكون، للأسف، قرارهم المستقل، ويرتهن مستوى تصعيدهم بحسابات داعميهم، وفي المقابل طالبت بعض الفصائل المسلحة في شمال البلاد باستغلال ما يجري في أوكرانيا لتصعيد المواجهة ضد النظام، بينما أعلنت جماعات إسلاموية متطرفة شرعية الانتقال إلى ساحة القتال هناك للاقتصاص مما فعلته قيادة الكرملين بالمسلمين في الشيشان وسوريا وغيرهما.
من الملاحظ أن التعثر الروسي في أوكرانيا والمسار اليومي لتطور المعارك أثرا بقوة على مواقف عموم السوريين، ولا يصعب على المرء بداية، أن يلمح في تعليقات الكثيرين مزيجاً من مشاعر الحماسة والإعجاب بالصمود والبسالة التي يبديها الشعب الأوكراني وقيادته، يحدو بعضهم أمل في أن تفضي المواجهة هناك إلى إضعاف سياسة روسية نشطة تدافع عن الوضع السوري القائم ضد أي مشروع للتغيير، بينما تلمس في المقلب الآخر ما يثار من دعوات للتطوع من أجل دعم روسيا في معاركها، ربما كما يشير بعضهم، كشكل من أشكال رد الجميل لموسكو التي لم تتأخر عن دعمهم وتمكينهم، وربما سعياً للهروب من معاناة معيشية لم تعد تطاق وطمعاً في الحصول على راتب شهري، قد يصل كما يشاع إلى ألف وخمسمائة دولار، وهو قيمة كبيرة في ظل الأزمة المعيشية الخانقة، وربما تناغماً مع ترحيب قيادة الكرملين بهؤلاء المتطوعين، خاصة من الشبيحة الموالين لها، الذين تمرسوا في مواجهات المدن السورية، للإفادة من خبراتهم في قتال شوارع بات مرتقباً.
والأهم، يمكن أن يلمس المرء تحسب المواطنين السوريين، أينما كانوا، من انعكاس هذه الحرب على شروط حياتهم، ففي مناطق سيطرة النظام يخشى الناس أن تزداد أوضاعهم المعيشية سوءاً، جراء الانعكاس غير المباشر للعقوبات العالمية على روسيا، في حين يتخوف اللاجئون السوريون من تداعيات تلك الحرب على أوضاعهم، إنْ لجهة الضغط الذي سيشكله ازدياد أعداد اللاجئين الأوكرانيين في البلدان الغربية التي لجأوا إليها، ما يؤثر على شروط حياتهم وربما يشجع اندفاعات التمييز ضدهم، وإنْ لجهة ما قد يلحق بمخيمات النازحين من تردٍّ مع تراجع الاهتمام الدولي بهم، في ظل انحسار المعونات الأممية وتنامي ظواهر حصار الدول المضيفة، رسمياً وشعبياً، عليهم.
يبدي غالبية السوريين تعاطفاً لافتاً مع الأوكرانيين، وهم الذين يعرفون جيداً ماهية المعاناة التي تنتظرهم، قتلاً وتدميراً وتشريداً، مع وضوح تقدم موسكو في سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها في سوريا، لكن ثمة حسرة تعتمل في نفوس الكثيرين منهم حول التباين الصارخ في الموقف الغربي والعالمي مما حصل في بلادهم وما يحصل في أوكرانيا، حيث لم يقتصر رد الفعل الغربي على إجماع على إدانة العدوان الروسي ودعم الشعب الأوكراني وحقه في سيادته وتقرير مصيره، بل اندفع لخلق اصطفاف عالمي واسع ضد حرب روسيا وسياستها التوسعية، ربطاً بإنزال عقوبات غير مسبوقة اقتصادياً ومالياً ضدها، وبحماس لافت من غالبية دول الاتحاد الأوروبي وأميركا وكندا واليابان وغيرها، لإرسال أسلحة وأموال تمكّن الأوكرانيين من المواجهة والصمود، كما فتح الأبواب على مصراعيها لاستقبال ملايين اللاجئين منهم، في حين كان الأمر مختلفاً في سوريا، حيث حظي التدخل العسكري الروسي عام 2015 برضا الدول الغربية وأميركا وكان محط ارتياح إقليمي لافت، مقروناً بعقوبات اقتصادية ودبلوماسية محدودة، ما أشعر السوريين بأن ثمة ما يشي بمؤامرة كونية لتمرير ما جرى من قتل وتدمير وتشريد، أو ما يشبه التواطؤ لتثبيت أركان النظام القائم، وإجهاض حلمهم في التغيير.