في طريقهما إلى أنطاليا في تركيا ربما كان على وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف وأوكرانيا ديميترو كوليبا، معرفة أن المعادلة في الحرب الروسية الشرسة على أوكرانيا، وصلت إلى طريق مدمر تماماً، فمن جهة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستطيع أن يستمر في دفع دباباته على نحو هائل نحو أوكرانيا، بعد تصريحاته التي وصلت إلى حد القول إنها ليست دولة، بل هي قسم من روسيا انتزعه الغرب الذي بات يقف على حدود روسيا.
لم يكن مفاجئاً أن يتعمد لافروف الحديث عن استبعاد وقوع حرب نووية، فمنذ إعلان الرئيس بوتين عن وضع ترسانته النووية في حال تأهب، عشية بدء الهجوم على أوكرانيا، تحاول موسكو أن تمحو هذه الغلطة المريعة فعلاً من سجل الرئيس الروسي، لكن ذلك لا يلغي القول إن فشل لافروف وكوليبا، ليس مستغرباً بعد ما وصلت إليه الأمور في الحرب على أوكرانيا، ذلك أن الصفحة الجديدة من الصراع قد تدفع العالم إلى الانزلاق في حرب نووية كارثية.
ذلك أن بوتين يقف فعلاً على الحافة النووية، وهو ما سيدفع بالتالي الولايات المتحدة وحلفاءها في حلف الناتو إلى الحافة إياها، رغم تواتر التصريحات الغربية عن الحرص على عدم الانجرار إلى المحرقة، لكن هذا لا يعني كل شيء، ففي نهاية هذا الصراع سيظل السؤال إياه مطروحاً في موسكو وفي العواصم الغربية: إذا خسرت روسيا الحرب وغرقت في معارك استنزاف منهكة هل تستطيع أن تتحمل؟ وفي المقابل إذا ربحت وفرضت هيمنتها على أوكرانيا في سياق خطة القضم التي تنفذها لاستعادة هيمنة «الإمبراطورية الروسية» على الدول التي انفرطت كسبحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هل تستطيع الولايات المتحدة ودول «الناتو» أن تبتلع هذا الأمر الذي سيجعل بوتين يستمر في سياسة التوغل غرباً؟
حتى الآن تقوم المعادلة على نوع من التوازي التدميري؛ ففي حين تمضي الدبابات الروسية في اجتياح المدن وتجعل من بعضها صورة مصغرة عن ستالينغراد، تمضي العقوبات الأميركية في إنهاك الاقتصاد الروسي الذي بذل بوتين شخصياً جهوداً هائلة لإعادة إحيائه، بعدما كان مجرد خردة متهالكة عند سقوط الاتحاد السوفياتي، فليس قليلاً أن يصل الأمر إلى إصدار الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام أمراً تنفيذياً بعدم استيراد النفط الروسي، وقرع أبواب فنزويلا والجزائر وليبيا وغيرها بحثاً عن البدائل، للحد من الآثار العكسية على أسعار النفط في الداخل الأميركي، وهو ما نددت به موسكو معتبرة أنها حرب اقتصادية تشنّها الولايات المتحدة بعد إعلان الحظر على استيراد الغاز والنفط الروسيين.
عندما أجرى رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي جولة في أوروبا، الأسبوع الماضي، مؤكداً عزم بلاده على الدفاع عن الجناح الشرقي لحلف «الناتو»، حرص على لفت نظر القوات المتمركزة في أوروبا إلى ضرورة العمل على منع اندلاع حرب بين القوى العظمى، فما كان من الخارجية الروسية سوى الرد بما يشبه السخرية: «إن على الولايات المتحدة أن تعتاد مسألة انتهاء هيمنتها الأحادية على العالم، وإن على موسكو وواشنطن العودة إلى التعايش بسلام كما كان الحال قبل الحرب الباردة، وإنها منفتحة على الحوار الصادق القائم على الاحترام المتبادل مع الولايات المتحدة، ما يبقي الأمل في عودة العلاقات بين البلدين إلى وضعها الطبيعي!».
عظيم، لكن من حق المراقب أن يطرح السؤال مباشرة: وكيف يمكن إقناع بوتين، الذي يؤمن بنظرية أن «التاريخ يصنع المستقبل» الذي يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، الذي ضم القرم وإقليمي لوغانسك ودونيتسك، وينكر على أوكرانيا حقها في الوجود، في وقت يقول تيموثي سنايدر، أستاذ التاريخ في جامعة ييل الأميركية مثلاً قبل أيام، إن «موقف بوتين من أوكرانيا خيالي، وإنه من الغريب عندما تكون عالماً بحقيقة التاريخ الأوكراني، أن تسمع شخصاً يعلن أنها غير موجودة.. من الواضح أنه مخطئ»، ويوضح سنايدر أن القومية الأوكرانية تعود إلى الوراء قبل مائة سنة من بداية الاتحاد السوفياتي، ويعود بعض عناصر التاريخ الأوكراني إلى العصور الوسطى.
بالعودة إلى الرئيس بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، واللقاء بين لافروف وكوليبا في تركيا، وهي بلد عضو في «الناتو»، قد يكون من المناسب إعادة قراءة ما كتبته المتخصصة في حل النزاعات ومديرة عملية أوكسفورد غابرييل ريفكيند في صحيفة «الغارديان» البريطانية من أنه عندما نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ في كوبا في ستينات القرن الماضي، كاد قربها من الولايات المتحدة يشعل حرباً عالمية ثالثة، فهل أن بوتين رأى أن «الناتو» بات يحاصر روسيا، وكل مطالبه أن يكبح «الناتو» توسعه قرب الحدود الروسية؟
وإذا كان لافروف وكوليبا اتفقا على مواصلة الحوار و«أن الدبلوماسية هي التي توفر الحل في النهاية»، فذلك يذكرنا أيضاً بما نقلته ريفكيند عن أناتول ليفين الأكاديمي المتخصص في أوكرانيا، من أن «هذه أخطر أزمة في العالم اليوم، لكنها الأكثر سهولة في الحل»، ذلك أنه يوجد حل صاغته ألمانيا وفرنسا وروسيا وأوكرانيا عام 2015، يتضمن تنفيذ اتفاق «مينسك 2» أي نزع السلاح واستعادة أوكرانيا سيادتها على الحدود مع روسيا، مع إعطاء حكم ذاتي لمنطقة دونباس، لكن الاعتراض الرئيسي يأتي من أوكرانيا، التي تعتبر أن الاستقلال الذاتي لمنطقة دونباس سيمنع أوكرانيا من الانضمام إلى «الناتو».
لكن إحدى الطرق لحل هذه العقدة هي أن يعلن «الناتو» أن أوكرانيا دولة محايدة، ويصدر قراراً بعدم انضمامها إليه مدة عشر سنوات على الأقل، وهذه عملية ممكنة لأنه من الناحية العملية والعلمية، تبقى عضوية أوكرانيا مستبعدة لمدة عشر سنوات على الأقل، بسبب الفساد فيها والافتقار الواضح إلى التقدم الاقتصادي.
لكن السؤال يبقى: وسط التدمير للمدن الأوكرانية وتهجير الأوكرانيين عبر المعابر إلى أراضٍ روسية، ووسط تدمير العقوبات الأميركية والغربية للاقتصاد الروسي، هل يمكن التفكير في اتفاق على حلول كهذه؟
8:7 دقيقه
TT
كيف تتوقف الدبابات والعقوبات؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة