د. ياسر عبد العزيز
TT

4 دروس إعلامية في الأزمة الأوكرانية

يخبرنا التاريخ الإنساني بأن الحروب الكبرى تُخلّف الكثير من الدمار والقتل والتشريد، لكنها عادةً ما تنجح أيضاً في تشكيل العالم الذي سيأتي بعدها، وهي في طريقها لذلك تعيد إنتاج الصور السائدة للدول والقادة والشعوب والفاعلين السياسيين والأحداث الضخمة، غير أن هذا الأمر بالذات يحدث بأقل قدر ممكن من الإنصاف، ويعزز مصالح المنتصرين في أغلب الأحيان.
واستناداً إلى ذلك، فإن الحرب الروسية - الأوكرانية، التي تجري وقائعها المادية في شرق أوروبا، بينما تمتد تفاعلاتها لتشمل مناطق أخرى بعيدة، قد تنجح في إعادة تشكيل بعض ملامح عالمنا. وهو أمر سيشمل مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد بطبيعة الحال، لكنه سيتسع كذلك ليؤثر في ميادين أخرى تُصنف ضمن الأصول الناعمة؛ مثل الرياضة والفن والإعلام والثقافة.
سيؤدي الإعلام دوراً فائق الأهمية والتأثير خلال هذه المنازلة الشرسة؛ إذ سينقل الأخبار والتطورات للمعنيين على مدار الساعة، كما سيجتهد في صياغة صور المتحاربين والمنخرطين في النزاع، وسيشن «هجمات سيكولوجية» ضد الأعداء، أو سينظم صفوفه للدفاع، لكنه بموازاة ذلك سيتغير، وسيكشف عن قواعد جديدة ستؤثر بدورها في تشكيل ملامح عالمه المستقبلي.
ما زالت العمليات تجري في الميدان، وأصوات الرصاص وقذائف المدافع تصم الآذان، بما قد يُغري بالانتظار قبل الشروع في تحليل ما جرى ورصد تأثيراته الخطيرة، لكن ذلك لا يمنع من رصد أربعة دروس بدت مكشوفة وكاشفة بما يكفي لتعيينها واستخلاص بعض العبر منها فيما يتعلق بالمجال الإعلامي المواكب للأزمة والمعركة.
من أفضل العبارات التي قرأتها تعليقاً على الحالة الإعلامية التي واكبت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، تلك العبارة التي تقول: «في أجواء الرقابة والتعتيم تلك، فإن أي خبر قد يكون صحيحاً، ما عدا ما يُسمح بطبعه». سيمكن بالطبع تفهم مدى صدق تلك العبارة وقدرتها على التعبير المكثف والدال عما أصاب منظومة الأخبار من عطب جراء سياسات القمع والتعتيم، التي مارسها المتحاربون على المجال الإعلامي، لضمان مصالحهم في وقت القتال، قبل قرن من الزمان.
لكن الإشكال ينشأ حين نجد أن الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه فيما يتعلق بالحالة الإعلامية المواكبة للأزمة الأوكرانية الراهنة لن يكون سوى خبر سيئ ومدهش في آن. إذ يمكن القول إن «أي خبر بخصوص تلك الأزمة قد يكون صحيحاً، ما عدا الكثير مما يُسمح بنشره»، في ظل طوفان من الأخبار والفيديوهات والصور الكاذبة التي تملأ المنصات، وتحرف الجمهور عن الحقائق، بموازاة عشرات من قرارات المنع والحظر التي يتبارى الجانبان في اتخاذها في حق وسائل الإعلام.
ويتعلق الدرس الثاني المُستخلص من التفاعلات الإعلامية المواكبة للأزمة الأوكرانية بأن المراكز الإعلامية الفعّالة القائمة بالفعل (مثل منظومة الإعلام الغربي القوية) أكثر قدرة على التأثير في مجريات الحرب والصور الناشئة عنها، في وقت تبدو قدرة المراكز الضعيفة وغير النافذة مثيرة للشفقة. وسيعزز ذلك فكرة أن صناعة الإعلام يجب أن تُبنى على استثمار استراتيجي طويل الأمد، بما يُمكّنها من تلبية الاستحقاقات المُلحة عند اندلاع الأزمات؛ إذ يصعب جداً تحقيق الاختراق على هذا الصعيد عبر استخدام وسائط مُستجدة أو تعوزها المصداقية والسمعة.
وأما الدرس الثالث فيتصل بأن السيادة الوطنية على المجال الإعلامي ما زالت قوية وفعالة فيما يخص منظومة الإعلام «التقليدي»؛ إذ ما زال بوسع أميركا، وروسيا، وبُتسوانا، والهند، وغيرها، أن تحظر الوسائل «التقليدية» غير المرغوب فيها في أراضيها حتى يومنا هذا، لكنّ معظم نطاق «الإعلام الجديد» لا يزال مجالاً حصرياً للسيادة الأميركية، التي تمتلك الوسائل اللازمة لحمل مشغلي وسائط «السوشيال ميديا» الرائجة على التصرف وفق المنظور والمصلحة الأميركيين. وستكون العبرة المُستخلصة من هذا الدرس مُجسدة في ضرورة التفكير في تطوير منصات «سوشيالية» وطنية مؤثرة، كما فعلت روسيا والصين، من جانب، والعمل المُنسق والدؤوب للحد من السلطة الاحتكارية والإدارة الانتقائية المُسيسة لمشغلي الوسائط الرائجة على الصعيد العالمي من جانب آخر.
ويأتي الدرس الرابع ليلقي بظلال قاتمة، ومعها الكثير من الأسى، على حرية الإعلام؛ إذ اتضح أن الجانبين المتصارعين لم يوفرا أي جهد ممكن لتطويع المؤسسات الإعلامية، أو تقييد الرسائل الفردية المناوئة، عبر الاستخدام المتفاوت لأدوات الحظر والحجب والقصف والقوانين الجنائية.
وفي كل الحالات حيث وقع الجور على حرية الإعلام كانت الادعاءات جاهزة بخصوص «الأمن والسلامة» أو «منع التضليل» أو «المعاملة بالمثل»، وهي الادعاءات ذاتها التي استخدمها المتحاربون في حروب القرن الفائت لتسويغ سياساتهم المُقوضة لحرية الإعلام.