رمزي عز الدين رمزي
سفير مصري ومسؤول أممي سابق
TT

حسابات مبكرة للخسائر الروسية في حرب أوكرانيا

من المبكر التنبؤ كيف ومتى ستنتهي الأزمة الأوكرانية. التكهنات تتراوح من نجاح روسيا في تحقيق أهدافها بتحييد أوكرانيا بشكل من الأشكال، وإعادة تشكيل النظام الأمني في أوروبا ودفع النظام الدولي نحو تعددية الأقطاب، إلى إخفاق ذريع سيؤدي إلى تغيير القيادة الروسية.
اندلاع الأزمة في أوكرانيا لم يكن مفاجأة. فكل المؤشرات خلال الأشهر القليلة الماضية كانت تؤكد أن روسيا ستقْدم على اتخاذ إجراءات متعددة تتخذ أشكالاً مختلفة -سلاح الطاقة والحرب السيبرانية من ضمن أدوات أخرى- للضغط على أوكرانيا للحيلولة بشكل نهائي وقاطع دون انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). إنما ما لم يكن متوقعاً هو أن تلجأ روسيا إلى استخدام القوة العسكرية على هذا النحو وبهذه السرعة.
ومما لا شك فيه أن لروسيا شواغل أمنية مشروعة على حدودها، خصوصاً في أوكرانيا، الأمر الذي أوضحته موسكو مراراً وبشكل جليّ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، فلم تكتفِ بمجرد إصدار الإعلانات وإنما اتخذت إجراءات فعلية، كما في جورجيا عام 2008، وجزيرة القرم وأوكرانيا عام 2014، كما أوضحت بشكل لا لبس فيه أن الوضع الأمني الراهن في أوروبا غير مقبول بالنسبة لها.
وعلى الرغم من الإنذارات المتكررة من موسكو، بدا واضحاً أن الغرب مرتاح لاستمرار الوضع الراهن في أوكرانيا على وجه التحديد، وفي وسط أوروبا بشكل عام، ربما بأمل أن يؤدي استمراره إلى فرز تفاعلات داخل المجتمع الأوكراني من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى أن تصبح أوكرانيا جزءاً لا يتجزأ من الغرب، سياسياً واقتصادياً وحتى من الناحية العسكرية والأمنية، ما من شأنه تثبيت نظام أمني أوروبي متسق مع مصالح الدول الغربية.
أمام هذا الوضع، لم يكن متوقعاً أن تستسلم موسكو للأمر الواقع وتقبل بنظام أمني في أوروبا لا يأخذ بالاعتبار مشاغلها الأمنية. فبدا أن صبرها نفد، وقامت بإجراء حساباتها وخلصت إلى أن الظروف مواتية لإجبار الدول الغربية على التعامل بجدية مع مشاغلها، واختارت تفجير أزمة في أوكرانيا لتكون المحرك لتحقيق ذلك.
وحتى أكون واضحاً، فروسيا -وقبل ذلك الاتحاد السوفياتي- والولايات المتحدة لديهما سجل مماثل عندما كانت مصالحهما الاستراتيجية تصطدم باحترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فيما يتعلق بحل النزاعات بالوسائل السلمية وعدم استخدام أو التهديد باستخدام القوة ضد سيادة الدول الأعضاء وسلامتها الإقليمية. فكانت المبررات تصاغ لتبرير اللجوء إلى القوة؛ تارةً كانت بحجة تلبية دعوة من الحكومة، كما كان الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة في جنوب فيتنام والاتحاد السوفياتي في أفغانستان، أو مكافحة الإرهاب في أفغانستان أو التخلص من أسلحة الدمار الشامل، كما بررت واشنطن غزوها للعراق، أو حماية الأقليات الروسية كما تعلن موسكو بالنسبة لترانسنيستريا وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وأوكرانيا. وغنيٌّ عن القول إن معظم هذه التدخلات العسكرية أخفقت في تحقيق الأهداف المرجوة منها. إذ نتج عنها دول فاشلة أو شبه فاشلة أو صراعات مجمدة، اللهم إلا إذا عددنا أن الصراعات المجمدة حالت -ولو مؤقتاً- دون تمدد «الناتو».
وما يضيف إلى أهمية تداعيات الأزمة في أوكرانيا أنها جاءت في توقيت حساس للغاية على المستوى العالمي، حيث يمر النظام الدولي منذ السقوط المفاجئ لجدار برلين عام 1989 بمرحلة انتقالية تمتزج فيها ظواهر متضاربة: العولمة والقومية الانعزالية - السياسات الاقتصادية الليبرالية وزيادة نفوذ وتدخل الدولة - التجارة الحرة وإقامة الحواجز الحمائية - زيادة حركة البشر عبر الحدود الدولية وظهور الحواجز للحد من تلك التدفقات - الانسياب الحر للمعلومات والتلاعبات الخبيثة بها، إضافةً إلى تحقيق ثروات هائلة غير مسبوقة مقترنة بتوزيع للدخل ربما يكون من الأسوأ في التاريخ. كما تأتي كل تلك التقلبات خلال تحول النظام الدولي من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية، ثم على ما يبدو إلى نظام متعدد الأقطاب.
جائحة «كوفيد - 19» زادت المشهد تعقيداً. فعلى الرغم من أنه من المبكر تحديد تداعياتها بشكل كامل، فإنه يبدو، في المرحلة الحالية على الأقل، أنها لم تُحدث تغييرات هيكلية في النظام الدولي، بل كرّست الاتجاهات القائمة بالفعل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وربما ضحيتها الأولى هي العولمة، مع سعي الدول بشكل حثيث إلى تحقيق درجة أعلى من الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي سيؤثر على وجهات التدفقات المالية وحركة ونمط التجارة العالمية.
هنا يجدر التنويه إلى أنه خلال هذه المرحلة الانتقالية للنظام الدولي، بدأ النموذج الاقتصادي والسياسي الصيني والروسي، الذي يمتزج فيه النظام السياسي الأوتوقراطي باقتصاد السوق الذي تلعب فيه الدولة دوراً محورياً، يكتسب جاذبية متزايدة، لا سيما بين البلدان النامية التي لم تجد في النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي حلاً فعالاً للتحديات التي تواجهها، بل وجدت النموذج الصيني - الروسي ملائماً أكثر للظروف الاقتصادية والسياسية المحلية. ولا شك أن ما دعم هذا التوجه هو البيان الصيني - الروسي المشترك الصادر في 4 من فبراير (شباط) 2022 الذي يرسّخ تعاون الدولتين لإنهاء الهيمنة الأميركية وإعادة تشكيل النظام الدولي بالشكل الذي يمكن أن يراعى مصالح الدول النامية بشكل أفضل.
وإذا كان بين أهداف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا الإسراع في تحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر استجابة لشواغل الدول النامية، فربما يأتي هذا التدخل بنتيجة عكسية من حيث تأثيره على حماسة الكثير من الدول النامية بالانسياق وراء النموذج الروسي، الذي أظهر أوجه قصوره في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا على مسرح واسع ومتنوع. ويبدو أن نمط التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول أوكرانيا في 2 مارس (آذار) مؤشر إلى ذلك، حيث صوتت خمس دول فقط، بينها روسيا، دعماً لموقف موسكو في الوقت الذي صوّتت 141 دولة ضدها وامتنعت 35 دولة عن التصويت بينها الصين، وهو تطور يستدعي قدراً من التأمل من موسكو.
في النهاية، إذا كانت موسكو قد أقدمت على التدخل العسكري في أوكرانيا، لمعالجة شواغلها الأمنية في الأجلين القصير والمتوسط، وإعادة تشكيل الترتيبات الأمنية في أوروبا، ودفع النظام الدولي نحو التعددية القطبية، فربما تكون قد ارتكبت خطأ استراتيجياً في إضعاف يدها في إعادة تشكيل النظام الدولي.

* سفير مصري ومسؤول أممي سابق