أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

أي حرب باردة ينتظر العالم؟!

ليس تسرعاً أو نوعاً من التبسيط، اعتبار حرب روسيا على أوكرانيا منعطفاً نوعياً في العلاقات بين موسكو والغرب، عنوانها القطيعة والجفاء بدل الحوار والتشارك. والقصد أن من كان يعتقد أن الحرب الباردة قد انتهت بعد سقوط جدار برلين، عليه أن يتابع اليوم جديد المشهد العالمي.. قرار الرئيس بوتين بوضع قوات الردع النووي في حالة تأهب قصوى، بعد أيام من إعلانه الحرب على أوكرانيا، ودخول جيشه من عدة محاور للسيطرة على ذلك البلد. عقوبات غير مسبوقة اقتصادياً ومالياً اتُّخذت ضد روسيا، تلتها قرارات بحظر طيرانها، ومنع بواخرها من استخدام المواني الغربية، وإبعاد فرقها الرياضية من المشاركة في المباريات العالمية والأوروبية، ربطاً بحماس الدول الأوروبية وأميركا وكندا، لإرسال أسلحة لتمكين الأوكرانيين من المواجهة والصمود، كما فتحت الأبواب لاستقبال ملايين اللاجئين منهم وتأمينهم.
كل ما سبق يذكِّر بمحطات شهدتها عقود من الحرب الباردة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين (1989)، وتفكك الاتحاد السوفياتي (1990)؛ لكن جديد هذه النسخة من الحرب الباردة، هو غياب البعد الآيديولوجي الذي كان عنواناً للصراع وقتئذٍ، بين المعسكرين الشيوعي والليبرالي. فالنخبة الحاكمة في موسكو تخلت عن الاشتراكية، وصارت جزءاً من العالم الرأسمالي. ولا يغير هذه الحقيقة الانتقادات التي تتعرض لها من قناة الديمقراطية وحقوق الإنسان، لقمعها المعارضة وتوسل القوة لفرض إملاءاتها.
والجديد أيضاً تبلور محور مختلف في مواجهة حلف «الناتو»، تقوده روسيا والصين، وتدور في فلكه إيران وفنزويلا، بعد زوال ما كان يُعرف بـ«حلف وارسو»، وأيضاً الاحتكام للعقوبات الاقتصادية والمالية، وللحرب السيبرانية في إدارة الصراع. والأهم وجود مشروع مُبيّت لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يحكم منذ عام 2000، جوهره إعادة الحياة لصورة الاتحاد السوفياتي، عبر تعزيز الوزن والدور العالميين لروسيا، الأمر الذي تجلى بتكرار سعيه لتوسيع نفوذ بلاده وسيطرتها خارج حدودها: في جورجيا عام 2008، وفي أوكرانيا نفسها عام 2014، بعد ضم جزيرة القرم، وفرض اتفاقية مينسك لدعم قوى موالية له في شرقها، وفي سوريا عام 2015، ومنذ شهور دخول قواته إلى كازاخستان لإجهاض التحركات الشعبية هناك.
صحيح أن قيادة الكرملين الحالية منزعجة من خسارة دورها كقطب عالمي، ويتملكها حنين قوي لاستعادة وزنها وموقعها العتيقين، ولا يرضيها تفرد الغرب في الهيمنة على المسرح العالمي، وصحيح أن انزعاجها الأكبر يتأتى من اقتراب حلف «الناتو» من حدودها، وتمكنه من تنفيذ مشروع الدرع الصاروخي في بلدان أوروبية، كانت حتى الأمس القريب تدور في فلكها؛ لكن الصحيح أيضاً أن تلك القيادة التي تعاطت بمرونة مع الغرب في ظل تشابك مصالحها الاقتصادية معه، وبدا أن ما يحكم سياساتها هو تنافس مدروس وتنازع آمن على حصص السيطرة والنفوذ، هي اليوم من تريد تغيير قواعد اللعبة، وتوسيع رقعة المنازعة، ودفع التنافس إلى مستوى أعلى، وربما إلى الحد الأقصى.
يصيب من يعتقد أن موسكو ما كانت لتقدم على حربها في أوكرانيا لولا التراجع المتواتر لدور واشنطن عالمياً، وأوضحه الطريقة المذلة لانسحابها من أفغانستان. ولولا ما يعانيه حلف «الناتو» من هشاشة، والاتحاد الأوروبي من ترهل وضعف، زاده ضعفاً خروج بريطانيا منه. كما يصيب من يعتقد بأن نجاح تجربة التدخل العسكري في سوريا، أغرى القيادة الروسية بجدوى اللجوء إلى القوة، لتعزيز نفوذها وفرض شروطها.
لكن؛ هل تمتلك روسيا فعلاً القدرة الاقتصادية على لعب دورها القديم، واحتلال موقعها كقطب عالمي منافس؟ وهل يصح استعادة ماضي الإمبراطورية السوفياتية، بواسطة القوة العسكرية فقط، وعبر التهديد بالسلاح النووي؟ وإلى أي مدى يمكن أن تغير موسكو موقفها، بعد أن أخفق رهانها على تفكيك العلاقات بين أوروبا وأميركا، وجاءت نتائج حربها على أوكرانيا لتعزز التعاضد بين أطراف «الناتو»؟ هل يمكن أن تربح قيادة الكرملين في أوكرانيا؟ أم ستقف مرة أخرى في موقف مشابه لما حصل سابقاً في أفغانستان، وحتى ما حصل في سوريا، حين امتلكت القدرة على الحرب والتدمير؛ لكنها لم تمتلك القدرة والإمكانات لإعادة الإعمار؟ ثم أين مصلحة حكومة موسكو وشعبها في نقض استراتيجية التعايش، والإطاحة بالترابط الواسع للمصالح الروسية الاقتصادية والمالية، الذي نشأ طوال العقود الثلاثة الماضية مع الدول الغربية؟ وأي ثمار تتوخى أن تقطفها من دفع صراعها مع الغرب وسباق التسلح إلى آخر الشوط، وقد جُرب هذا المسار طويلاً ولم يفضِ إلى نتيجة سوى التردي التنموي، وما كابده الشعب الروسي من العذاب والمعاناة؟
ثمة أنظمة استبدادية بدأت تفرك أياديها فرحاً، وتهلل لمناخات الحرب الباردة، وللعودة المحمومة إلى القطيعة وسباق التسلح، ولمنطق اللجوء إلى القوة أو التهديد بها كوسيلة للعلاقات بين الشعوب والدول، وفي مقدمها النظام الإيراني الذي لا يزال مفتوناً بلغة العنف والمكاسرة، ويتطلع لإحياء الإمبراطورية الفارسية، والذي بدل الاهتمام بأزماته الداخلية المتفاقمة، يتوغل عسكرياً أكثر فأكثر في العراق وسوريا ولبنان واليمن، متوهماً قدرة جمهوريته الإسلاموية على الهيمنة على المنطقة، وإخضاع دولها وشعوبها.
لكن؛ أياً تكن نتائج حرب روسيا على أوكرانيا، ومع تقدير حجم الألم والمعاناة التي سيتكبدها شعباهما، فإن التداعيات التي ستنجم عنها سوف تترك آثاراً بعيدة المدى على القارة الأوروبية، وعلى مناخ الصراع العالمي كله، فكم هو ظالم وقاهر للعالم أجمع ولمصير الإنسانية، فرض حرب باردة جديدة، عنوانها إحياء النظام العالمي القديم؛ عالم الإمبراطوريات وسطوتها، حتى وإن كان متعدد الأقطاب! حرب هي أكثر خطورة من سابقتها، وتنضح باحتمال انزلاق أطرافها إلى حرب ساخنة، قد تهدر ما راكمته البشرية طيلة مئات السنين.
لا نعرف إذا كان ثمة بقية أمل في الإفادة مما يحصل، لخلق رأي عام ضاغط يحاصر نوازع العنف والاستئثار والأنانية، ويحفز تعاضد القوى والفعاليات التي تتشارك القيم الإنسانية، ولها مصلحة حقيقية في عالم آمن لا ظلم فيه ولا عنف ولا تمييز، وتتطلع لبنية ودور جديدين للأمم المتحدة ومجلس أمنها، في حفظ السلم والحياة والتعايش، بعيداً عن سيطرة دول قليلة تملك حق «الفيتو» على قراراتهما، بما يخالف مبدأ المساواة في المشاركة والتمثيل والتقرير.