مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

هل حزم السلام أمتعته ليرحل عن أوروبا؟

دخل مصطلح «الشرق الأقصى» حيّز الاستخدام في الخطاب الجيوسياسي الأوروبي في القرن الثاني عشر، واليوم يتجدد هذا الخطاب الذي قال عنه داسو الأب عام 1984: «الشرق الأقصى هو سماؤنا المقبلة»؛ فالتاريخ محمل بإرث ثقيل فسره المؤرخون والساسة بسوء التقدير، بإخفاء الحقائق، أو بالأصح تجاهلها؛ فقد تقاتلت أوروبا طويلاً، وتمزقت وحدتها واستقرارها، إلى أن خرجت من هذا العنف والطغيان وصدّرته إلى العالم، بعد أن توحدت وجعلت السلام منهج حياة، ولكن نذر الحرب عادت لتخيم على سماء العالم، ولن تستقر حال السلام طويلاً.
من هنا، لا يمكن أن ينتهي تأويل الأحداث السياسية بمجرد تقديمها، مهما كانت أسبابها، كما هو الشأن في بقية الأحداث، لذلك يكون التفسير أعمّ من التأويل، والرجوع لعاقبة الأمر أمر مفروض؛ فكلما تكرر الاحتمال أكثر كان علامة على التقارب بين الدلالات، فقد رسمت روسيا خريطة الحرب في ساعاتها الأولى، بتحديد المدن والمناطق التي استهدفتها، وكان نقل الحرب بالبث المباشر بين قصف شديد وقصف متوسط قد لاقى استهجاناً واسعاً من الغرب.
نظراً لكل ما يدور حول الأزمة الأوكرانية المتسارعة فقد بدأت بحرب التصريحات بين التخويف والتهديد، وانتهت بقرع طبول الحرب، ولكن في بعض الأحيان يكون الفرق بين الحرب والسلام تلك الناحية النظرية والعسكرية والسياسية والترسانة الحقيقية من التعاليم والأمثلة في كيفية تحضير الجنود وتحطيم معنويات الأعداء، لا سيما بعدما رصدت الكاميرات هروب كثير من حرس الحدود الأوكراني وترك أسلحتهم، وتلك التجمعات من الأوكرانيين قبيل عبورهم إلى الجارة الغربية بولندا، التي تستعد لتدفق المزيد من النازحين، وذلك بعد ساعات من الهجوم الروسي.
إن ما يجري في الفترة التي سبقت الأزمة تغيُّر مستقبل الديمقراطية في الغرب؛ فهل هو عدم توازن أو عدم استقرار؟ فهذا القرن لن يكون قرناً ديمقراطياً لجميع الشعوب في العالم، وذلك ما تنطق به الأحداث في كثير من الدول الغربية، وما تتحدث به أرقام التجارة الدولية؛ فبعد اعتراف روسيا باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك الواقعين بمنطقة دونباس، التي يهيمن عليها الناطقون بالروسية، وتخضع منذ عام 2014 لسيطرة الانفصاليين الموالين لموسكو، أخذت أزمة أوكرانيا مساراً آخر يؤكد أن مستقبل هذين الإقليمين مهدد بالانزلاق نحو صراعات مفتوحة، كما هو حال جورجيا، الذي وقع عام 2008.
فالتطورات المتسارعة جنحت إلى حالة من التصعيد المتبادل والحرب؛ فلو كان هناك خيار لتكيفت كل الظروف مع العصر الجديد على نحو مغاير، وتعايش معها العالم المتقدم، العالم الرأسمالي أو العالم الشيوعي والكتلة الاشتراكية في الغرب والشرق، وسواء كان ذلك تفسيراً صحيحاً أم لا، يبدو الأمر وكأنه توسع دفاعي، ورغبة القياصرة لا تؤكد سلوك الطرق نحو الغرب دخولاً في عصر الحداثة وصراعاته هذه المرة، وإنما لإنقاذ أراضيها من التفكّك.
تعتبر أوكرانيا الدولة الثانية بعد روسيا في الفلك السوفياتي السابق، ولم تنتهِ مشكلاتها حتى بعد انفصالها ورسم حدودها، بداية من تجريدها من سلاحها النووي وأسطولها في البحر الأسود، وإعادة جزيرة القرم إلى روسيا، هذا وقد اتحدت المطالب والأهداف بين واشنطن وموسكو، كون أوكرانيا - حسب الرؤى الأميركية والروسية - ستصبح مع الوقت قوة أخرى قادرة على خلخلة التوازن الأمني في أوروبا ودول البحر الأسود، ما لم يتم إخضاعها مبكراً.
وتحت ضغط الخسائر والخوف من الحرب تندد كييف بارتكاب عنف استفزازي ضدها، الأمر الذي تسبب في أزمة طالما خشي الغرب من وقوعها، أدت إلى اندلاع حرب قد تكون شاملة، فما الذي يمكن استنتاجه؟ هل روسيا تخبئ مفاجأة للعالم؟ لا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه الأزمة وكيف سيتحمل الاقتصاد الروسي مزيداً من العقوبات المفروضة من واشنطن و«حلف الناتو»، فكل هذه الإشارات والأسئلة عن روسيا تخبر بإعلان العصيان على الغرب، ويرى حلفاؤها أو مؤيدوها أن لها حق الدفاع عن نفسها بمواجهة التوسع التدريجي لحلف شمال الأطلسي باتجاه حدودها، إذا شكّل ذلك تهديداً لأمنها القومي وسلامها الإقليمي والدولي.