خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الظروف المريبة لاختفاء المنظّر السياسي

يكاد المنظّر السياسي يختفي تماماً من صحافة اللغة العربية. في الصحافة كتّاب كبار متميزون أحرِص على التعلم منهم، لكنَّهم معلقون سياسيون على الأحداث. بينما المنظّر السياسي شخصٌ قادرٌ على بلورة «قوانين حركة سياسية»، لا يكتفي بالتعليق على ملف واحد، أو الظهور في الاستوديو التحليلي بين الشوطين، بل يقدم طرحاً متكاملاً صالحاً للتطبيق في مجموعة من الملفات من دون أن يفجرَ أحدُها الآخر. كما استطاع بيب غوارديولا بلورة أسلوب تفكير كروي. المنظّر السياسي يتحدَّث بلغة السياسة لا بلغة الحقوق، ولا بلغة الشعارات الإنسانية.
أتحدَّث هنا عن اختفاء المنظّر السياسي عن الإعلام، وليس عن اختفائه من الحياة. مصر والسعودية والإمارات أظهرت خلال السنوات العشر الماضية قدرة على التفكير الاستراتيجي البراغماتي، في مواجهة تحديات إقليمية وعالمية كبرى. لا يمكن أن يكون هذا نتاجاً لعقل يتعامل مع السياسة عشوائياً، أو بردود فعل متشرذمة. هناك بلا شك منظّرون سياسيون على مستوى عالٍ من الكفاءة في دوائر صنع القرار.
لكن وجود المنظّر السياسي في دوائر صنع القرار في هذه الدول لا يغني أبداً عن وجوده في دوائر صنع الرأي العام، أي في دوائر الإعلام. ليس بصفته شخصاً مكلفاً توجيهَ الرأي العام، فهذه وظيفة مختلفة تماماً. نبحث عن المنظّر السياسي الذي تشبه علاقته بالرأي العام علاقة الديفيلوبرز بسوق البرمجة وابتكار التطبيقات، أو علاقة الشركات الخاصة بالزبائن في سوق رأسمالية. المنظّر السياسي موهبة تبرز بالتنافس، في سوق مفتوحة لهذا النمط من التفكير، يقبل عليها الناس بدافع من إدراك المنفعة فيما يقدمه.
المنظّر السياسي من ثم يختلف عن نموذج لسان السلطة الستيناتي «الموهوب» الذي تحول إلى متبنٍ لرؤية وليس مطوراً لها. التنوع في مطوري (منظّري) السياسة حتمي وفي غاية الأهمية. بديهياً لأنَّه يفتح مزيداً من أبواب التفكير، وثقافياً لأنَّه يجعل الرأي العام متفهماً لمعنى التفكير السياسي، ولفكرة تكامل النظرة السياسية، وعلاقة كل ملف بملفات أخرى. التنوع يقضي على فكرة المحرمات في التفكير السياسي، وهي فكرة قاتلة خانقة... غياب فهم معنى وغرض السياسة مرض شائع، لا أقول بين العامة، بل بين النخبة أيضاً.
ولعلَّ هذا - بالنسبة لي - أول أسباب غياب «المطور» السياسي. حيث من الصعب أن ينشأ التنظير السياسي الناجح في ثقافة شعاراتية. المعتقد المحرك للتفكير السياسي هو أن جودة الفكرة كامنة في مدى نفعها، وتحقيقها المصلحة، وليس مدى موافقتها للشعارات المتوارثة. يجعل هذا «المطور» السياسي المخلص لمهنته مرجوماً موصوماً في المجتمعات التي لم تفهم دوره. بينما يجعل الطريق الأقصر إلى نيل رضا الناس تكرار ما يعلمون سابقاً. أي تعطيل العقل السياسي.
سيقول أناس إن السبب الأول في غياب التنظير السياسي، من ثم، يعود إلى طبيعة العلاقة بين السلطة في منطقتنا وبين الكتّاب السياسيين، حيث التوتر من الطرح المختلف يأتي من أعلى قبل أن يأتي من أسفل. وحيث إشاعة مفاهيم «شعاراتية» عن السياسة مهمة يضطلع بها الإعلام حتى الرسمي منه. كأنما نتنصل داخلياً من «جريمة» التفكير السياسي الجيد. وهذا رأي لا يمكن تجاهله.
تمر علينا هذا الأسبوع ذكرى مقتل سعد حلاوة، وهو شخص اعترض على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل بأن احتجز - وهو مسلح - موظفين مدنيين. وانتهى الأمر بقتله على يد الشرطة. بينما أبحث في الأرشيف عن الواقعة فوجئت باحتفاء جريدتين مصريتين رسميتين به بوصفه «شهيد التطبيع». الخبر الممجد لهذا الفعل الإرهابي كان في 2016، أي بعد 36 سنة من الواقعة، بعد أن هدأت الأعصاب، واستقرت السياسة، وشَهِد لبعدِ نظر أنور السادات وحسن اختياره كثيرٌ من معارضيه. إن كان هذا يحدث من الإعلام الرسمي، فأي أجواء يتوقعها من يضطلع بالتنظير السياسي! أي رسالة تصل إلى الجمهور، وأي أفكار يمكن أن تطرح في الساحة.
لكنني أميل هنا إلى جمع مسؤولية السلطة بمسؤولية النخبة في هذا البند. النخبة حولت كل من دافع عن الاختيار السياسي «الجيد» إلى عبرة. التنظيمات المسلحة تقتل السادات ويوسف السباعي، صحف الممانعة تمجد الفعل، وإعلام رسمي يكمل المهمة من أبواب خلفية. شاعر بحجم نزار قباني خص إرهابياً كسعد حلاوة بالرثاء في 1980، وصحف رسمية إلى يومنا ترثي إرهابياً آخر هو سليمان خاطر وكأنه بطل.
إن كان المسار السياسي المسموح باقتراحه واحداً لا يتعدد، سواء من طرف السلطة أو من طرف النخبة الإعلامية، فلا سبيل إلى تنظير سياسي شاحذ للتفكير، موحٍ بالأفكار، ملهم للتعديلات والتضبيطات لتحسين المنتج. ما من سبيل بداية. وهو ما يؤدي إلى تعميق وترسيخ ثالث الأسباب في غياب «المطور» السياسي، بريستيج الرفض.
بريستيج الرفض خصلة شائعة في مهنة النقد، لكنه لا يملك أي قيمة في مهنة الإبداع. التنظير السياسي إبداع. خلق صورة متكاملة، سيناريو متسق، لتحرك دولة (أو تحرك حزب). بالتالي لا تعترف مهنة التنظير السياسي بأسلوب «اخطفْ واجرِ»، أو ابن عمه «اخبط واختبئ». الأسلوب الذي يعطي أحدهم الفرصة لكي يخرج ليعترض على توافق مصر - مثلاً - مع عدو سابق، أو جيران تربطنا بهم من العلاقات الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية ما لا يضحي به إلا أحمق، ثم يختبئ بدون أن يطرح علينا صورة متكاملة لما يريد منا أن نفعل بديلاً. يختبئ بعد أن استمتع بتصفيق الجمهور...
في عالم التنظير السياسي هذا رأي فاسد، يشبه أن يكتفي المدير الفني لفريق كرة بإلقاء خطب حماسية على لاعبي فريقه، بدون خطط لعب.. بلا تغييرات تكتيكية.. ومن دون تعامل مع الوقائع على أرض الملعب.
غياب التنظير السياسي عَرَض لمرض، ومرض كامن خلف عَرَض. عودة المنظّرين السياسيين الواثقين البراغماتيين إلى إعلامنا علامة صحة.