فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الحب في زمن كورونا وأوكرانيا

في كتاب هنري ميللر «الكتب في حياتي»، الذي صدر بالأصل في بداية الستينات، وترجم للعربية عام 2012 - ت: أسامة منزلجي، دار المدى - تصدمنا جملة تبدو ناشزة، وغريبة على كتابات ميللر وطبيعة حياته التي اعتاد أن يصفها نقاده بـ«العبثية» و«العدمية »، وبعضهم بـ«اللاأخلاقية». تقول الجملة ما معناه أن «الخوف من الحياة لم يكن قط متفشياً هكذا. لقد احتل الخوف من الحياة مكان الخوف من الموت. وأصبح للحياة والموت معنى واحد».
وهي جملة مفزعة قد لا يتوقف المرء عندها عند قراءاته، وقد يحيلها لسبب شخصي متعلق بالكاتب نفسه، أو للظروف المتعلقة بتلك الفترة الانتقالية، التي كانت فيها الحرب الباردة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي تنذر بكارثة عالمية وشيكة، بعد أزمة برلين الثانية عام 1961، والتي كادت تقود لمواجهة عسكرية كبرى بين العملاقين آنذاك، ورافقتها أزمة الصواريخ الكوبية، كما هو الوضع الآن بين روسيا وأوكرانيا.
كأن ميللر يكتب عنا وعن عالمنا الآن. نعم، نحن خائفون من الحياة... خائفون إلى درجة الاقشعرار. وبالطبع، مع الخوف، كل خوف، تنسحب تلك الحيوية الحية، التي تغذي نسخ الحياة، والتي يسميها وليم بليك بـ«الغبطة الخالدة».
كم تجد عبارة ميللر هذه تجسيدها الأقصى الآن، بل تتخذ أيضاً بعداً مضاعفاً، فنحن لم نعد خائفين من الحياة فقط، ومن أيدينا، وطعامنا وملابسنا وظلالنا، بل من الآخرين أيضاً. وهم ليس أولئك «الآخرين»، المجردين، الأشباح، البعيدين عنا، بل أحبابنا القريبون منا، الملتصقون بجلودنا ليل نهار، المشكلون لجوهر وجودنا وبقائنا كبشر، هذه المسافة بيننا وبين الحياة التي كنا نعرف تزداد سعة يوماً بعد يوم، وهي مليئة بالحفر والأخاديد والآبار المفتوحة التي علينا أن نحذر منها في كل خطوة، وأن نفتح أعيننا جيداً حتى في رابعة النهار.
نحن نشعر ربما جميعاً بأننا لم نعد تلك الكائنات العفوية التي كنا عليها في سالف الأيام والأزمان.... شيء تغير فينا للأبد. صرنا حكاية قديمة ستروى للأجيال القادمة، يرويها أحمق أو مجنون ولا تعني أي شيء، كما صرخ ماكبث مرة قبل قرون. لم يكن هذا فعل الجائحة فقط... إنها الجانب المنظور، إنها إشارة حمراء فقط لم نرها ونحن ندب في دهاليز المسافة التي تمتد أمامنا بلا أفق يلوح لنا من قريب.
الجائحة لم تجئ بغتة، بل كانت تتراكم تحت السطح سنين وسنين، حتى كبرت وأخذت تتسلل إلى ثيابنا، وتنمو في رئاتنا من دون أن نراها. ويبدو أننا ما زلنا نحث الخطى رغم كل الإشارات الحمراء. لم نتعلم شيئاً لسبب واحد: إننا لم نستطع أن نقرأ «كتاب الحياة»، الذي كان مفتوحاً أمامنا دائماً لأننا لم نحب هذه الحياة بشكل كافٍ. بدلاً من ذلك، فتحنا كتاب الحرب والقمع والكذب والتضليل... كتاب الموت.
وهكذا دخلنا شيئاً فشيئاً في مرحلة انغلاق محكمة لا نعرف كيف نخرج منها. لكن هذا ليس جديداً على البشرية، فقد مرت سابقاً بمراحل انغلاق كثيرة وخصوصاً في القرن العشرين، في الحربين الكونيتين، ثم الفاشية والنازية، وأزمة 29 المالية، والحرب الباردة، التي تعيد إنتاج نفسها اليوم. ويبقى السبب هو نفسه: أننا لم نحب الحياة... لم نحبها بشكل كافٍ. ومع ذلك، رغم مسيرتها المبعثرة، استطاعت البشرية، التي لا تطرح على نفسها إلا المشكلات القادرة على حلها كما يقول أحد الفلاسفة، أن ترمم شيئاً من كيانها المتشظي، وتلملم بعضاً من أشلائها، فقط بقليل من الحب.
قليل من الحب هو كل ما نحتاج في هذه الحياة الفانية.