رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

رئيس لم يخلع بزة الجنرال

ليس صحيحاً أن كل الأطراف السياسيّة اللبنانيّة ترغب في تأجيل الانتخابات النيابيّة المقبلة وهو استحقاق ديمقراطي مفصلي من شأنه أن يعيد تشكيل خريطة القوى وموازينها داخل المجلس النيابي الجديد الذي ينتظره الكثير من العمل والتحديات، وفي طليعتها انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وهي المحطة التي تنتظرها الغالبيّة الساحقة من الشعب اللبناني؛ نظراً للإخفاق التام الذي طبع هذا العهد منذ انطلاقته بسبب سياسات الكيديّة والتشفي التي اعتمدها، متوهماً أنه يملك القدرة على إدارة بلاد شديدة التنوع والانقسام بإرادته الفرديّة.
لقد أهدر الرئيس اللبناني كل الفرص التي توفرت له من خلال اقتراع الكتل الكبرى لانتخابه، حتى ولو قام البعض منها بذلك على مضض، وراح يعيد إنتاج شعارات بالية ويخترع معارك وهميّة مع معظم مكونات المجتمع السياسي اللبناني مصوّراً نفسه على أنه لا ينتمي إلى الطبقة السياسيّة وهو الذي قاد، مع تياره، صولات وجولات من التعطيل وشل المؤسسات تارة لتعيين صهره المحظي في وزارة معيّنة، وتارة أخرى لتعيين صهره الثاني قائداً للجيش، وتارة لانتخابه إلى كرسي الرئاسة الأولى، وسوى ذلك من الخطوات المعروفة التي فاقمت أزمات لبنان المتراكمة سياسياً واقتصادياً واجتماعيّاً.
لقد شهد لبنان في عهد الرئيس ميشال عون انهياراً غير مسبوق على مختلف المستويات، كما أن علاقاته العربيّة والدوليّة تدهورت بشكل لم يحصل من قبل، وهو البلد الذي يرتكز في الكثير من سياساته ودوره ورسالته على ما كان يملكه من «احتياطي» سياسي ومعنوي على مستوى تلك العلاقات التي كانت تعكس نفسها بشكل أو بآخر على الاقتصاد الوطني الذي عانى ويعاني بدوره من اختلالات بنيويّة ووظيفيّة هائلة.
من أجل كل ذلك، تنطوي الانتخابات النيابيّة المرتقبة في شهر مايو (أيار) المقبل على أهميّة استثنائيّة، فعدا عن كونها ستشكل فرصة للشعب اللبناني الغاضب لأن يعبّر عن خياراته السياسيّة في ضوء الأزمات المتلاحقة التي استولدت نفسها على أكثر من صعيد، فهي ستحدد أيضاً مسار الانتخابات الرئاسيّة التي تحوم حولها الكثير من علامات الاستفهام بعد كلام رئيس الجمهوريّة الملتبس مراراً حول عدم مغادرته القصر عند انتهاء الولاية في حال لم يتم انتخاب خلف له أو بتعبير أدق في حال لم يتم انتخاب الخلف الذي يريده.
ويواصل الرئيس اللبناني سياسة توزيع الرسائل يميناً ويساراً وبعضها إلى حلفائه قبل خصومه، مثل تسريبه عبر أحد الإعلاميين أنه قد يعيد تجربة فتح قصر الرئاسة للحشود الشعبيّة عند انتهاء ولايته أسوة بما فعل في عام 1989 عندما أوهم قسماً من اللبنانيين لا سيّما أولئك الذين كانوا يقيمون بما كان يُسمّى آنذاك «المنطقة الشرقيّة» (في إشارة إلى المناطق التي سيطر عليها الجيش اللبناني بقيادته وحزب «القوات اللبنانيّة»).
لقد تبيّن لاحقاً، لقسم كبير من هؤلاء، أن الشعارات التي رُفعت مثل «حرب التحرير» ضد الجيش السوري و«حرب الإلغاء» ضد «القوات اللبنانية» لم تكن سوى شعارات شعبويّة تُرجمت في معارك عبثيّة دمرّت لبنان ولم تحقق التحرير أو الإلغاء، وأنها لم تكن سوى إعادة خلط للأوراق لتحسين فرص انتخابه إلى الرئاسة الأولى. كم كانت الكلفة مرتفعة يومذاك. وها هو لبنان لا يزال يدفع أثمان تلك الخيارات التي انتعشت مجدداً من خلال التسوية الرئاسيّة التي حصلت سنة 2016 وأفضت إلى انتخابه، ولو تغيّرت البزة والمظاهر الخارجيّة.
في العمق، لا يمكن لميشال عون الجنرال أن يختلف عن ميشال عون الرئيس، خصوصاً إذا كان هناك في الدائرة الصغيرة المحيطة به من يزرع في عقله وقلبه بصورة مستمرة ضرورة اختراع الأخصام ومنازلتهم بمعزل عن نتائج المنازلة وأدوات المعركة. المهم أن يتصدّر هذا التيار ورئيسه الفعلي ورئيسه الفخري عناوين الصحف، حتى ولو كان ذماً.
من هنا، يتضح كيف أن لدى بعض الأطراف السياسيّة اللبنانيّة رغبات دفينة بإرجاء الانتخابات النيابيّة لأن رصيدها الشعبي تآكل بفعل السياسات الهوجاء التي اعتمدت وبفعل الفشل الذريع في إدارة شؤون الدولة وتحويلها إلى منصة لتمرير الصفقات وعدم النجاح في تسجيل إنجاز واحد. قطاع الطاقة في لبنان يشكل نموذجاً واضحاً عن هذا الفشل إذ بلغت تكاليف خسائره منذ أن تعاقب عليه وزراء التيار الرئاسي ما يفوق 40 مليار دولار! إن هذه الكلفة الباهظة والخياليّة كانت كفيلة لإنارة عدد من بلدان الشرق الأوسط وليس لبنان فقط.
ثمّة قوى سياسيّة أخرى تعتبر أن إجراء الانتخابات النيابيّة سوف يمنحها فرصة تثبيت حضورها الشعبي ويخرجها تالياً من دائرة الضرر التي شكلها شعار «كلن يعني كلن» الذي وضع كل القوى السياسيّة في سلة واحدة وحمّلها مسؤوليّة متساوية عن تدهور الأوضاع في لبنان. وإذا كان هناك مسؤوليّة من دون شك على جميع الأطراف، إلا أنها لا تتساوى في تحمّلها، فهل يتساوى من كان يمارس التعطيل المنهجي ويصادر قرار الدولة مع من لم يكن يوافق على ذلك؟
المهم أن التلاعب بالانتخابات المرتقبة من شأنه أن يعمّق الانقسامات والانشقاقات اللبنانيّة ويدفعها نحو المجهول الذي قد يتمظهر في خيارات عنفيّة من غير المستبعد أن تلجأ إليها بعض الأطراف للخروج من مآزقها المحليّة والإقليميّة. لبنان في مأزق، هذا أمر محسوم، ولكن كيفيّة خروجه منه هو الأمر غير المعلوم!