ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

التنوير والتنويريون: جابر عصفور مر من هنا

لا يجود الزمان كثيراً بمفكرين عباقرة كالراحل الدكتور جابر عصفور، الذي رحل عن عالمنا في اليوم الأخير من العام المنصرم 2021، بعد أن قضى حياته يوقد مشاعل التنوير في العالم العربي. بعد حُقَبٍ طالت من التيه الفكري والحضاري.
سبقت أوروبا العالم بولوجها عصر التنوير، حين فرت من هيمنة الخرافة، وخنوع الإنسان لسيطرة الكهنوت، وأعادت الاعتبار للعقل والتفكير العقلاني، وتحت وهج التنوير اشتعلت الثورة الفرنسية، وقامت نهضة أوروبا الحديثة، منذ أن أشعل الفلاسفة شعلة التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كان «التنوير» على رأي الفيلسوف إيمانويل كانت: «خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، وهذا القصور سببه: الكسـل والجبن، فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، ووضع القواعد والقوانين والأنظمة لسلوك حياتهم، وبالتالي السيطرة على طريقة تفكيرهم من خلال فكرة الوصاية، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم».
في العام العربي، كان علينا أن ننتظر أكثر قرن من الزمان حتى تدب في بلادنا حركة النهضة التي سارت مسار التنوير رغم تعثرها وخيباتها المتكررة، منذ الإمام محمد عبده (1849 - 1905)، ورفيق دربه قاسم أمين (1863 - 1908)، ثم الرعيل الذين تأثروا بالشيخ الإمام محمد عبده: عبد الرحمن الكواكبي (1855 - 1902) مؤلف «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، ورشيد رضا (1865 - 1935) صاحب مجلة «المنار»، وسعد زغلول (1858 – 1927)، وطه حسين (1889 - 1973)، هؤلاء وغيرهم أمثال: محمد عابد الجابري (1935 - 2010)، والطيب تيزيني، وجورج طرابيشي، وعبد الله العروي، ومحمد أركون، تركوا بصمات في بنية الفكر العربي وأحدثوا أثراً واضحاً في التفكير النقدي للتراث ولدور العقل. لم يسفر المشروع النهضوي العربي عن «نهضة» حقيقية، ولم يخرج العرب لعالم الحداثة والعصرانية، ولم يحقق فوزاً كاسحاً في وجه السلفيات الفكرية والثقافية، لكنه أتاح لأجيال أن تفكر خارج صندوق الماضي، ونحو حاجات المستقبل.
جابر عصفور، كان مشعلاً حقيقياً للتنوير، جاء من بنية المجتمع، وعاصر استفحال التخلف والتشدد، كما انفتح على مدارس الفكر الحديث، وشهد تراجع مشروع الإصلاح في العالم العربي مع رحيل رواده، لذلك فقد بنى مشروعاً فكرياً يوقد مشاعل التنوير، واشتغل على دراسة ونقد التراث أولاً، ثم اتجه نحو منظومة فكرية تعتمد على إعمال العقل وتحريره من أي هيمنة تعيقه نحو الحركة والانطلاق. منذ قدم دراسته في نقد طه حسين، إلى كتابه «الإحيائية والإحيائيون»، و«قراءة التراث النقدي»، ثم كتبه: «محنة التنوير»، «دفاعاً عن التنوير»، «هوامش على دفاتر التنوير»، «نوار العقل»، «ضد التعصب»، «نقد ثقافة التخلف»، «الرواية والاستنارة»، «الرهان على المستقل»، «نحو ثقافة مغايرة»، وكتاب «مواجهة الإرهاب»، وهو واحد من أدوات معاركه مع التيارات المتشددة، كما كتابه «للتنوير والدولة المدنية»، الذي نظر فيه للدولة المدنية القائمة على المواطنة وحكم القانون.
سبق رحيل جابر عصفور بنحو سبعين يوماً رحيل مفكر مصري آخر هو الدكتور حسن حنفي، الذي قدم أيضاً مساهمات فكرية متميزة، خصوصاً مشروعه «التراث والتجديد»، وتعرض حنفي في حياته إلى ما تعرض له المفكرون المصريون أمثال نصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، حيث تمت ملاحقته ومصادرة كتبه. ورغم الخلاف الفكري بين جابر عصفور وحسن حنفي فقد دافع عن حقه الفكري، واعترض على قرار مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر في 2013 مصادرة كتاباته، معتبراً أن القرار اتخذ «بسبب بعض أصحاب المخيلة المريضة الذين يميلون للإسراف في أحكامهم»، وأن كتابات حسن حنفي لا يمكن أن يكون بداخلها شيء من الكفر، رغم ما يملكه من جرأة في طرحه الفلسفي. هذا الدفاع لم يمنع عصفور من نقد المشروع الفكري لحسن حنفي، حيث اعتبر خلال مشاركته في ندوة أعدها معرض الكتاب في القاهرة 2019 عن مشروع حسن حنفي في «التراث والتجديد»، أن أغلب أفكار حسن حنفي، «غير مفيد، ويتجه للجوانب الهدامة من التراث»، وصولاً لقوله إن حسن حنفي «أصولي متأثر بفكرة تثوير الفكر الإسلامي».