ميشال أبو نجم
TT

حذارِ من استهلاك أسماك البحر المتوسط

لا نعرف حتى الآن ما الذي ستتفتق عنه قرائح القادة الأوروبيين الذين سيلتقون «قريبًا» للبحث في موضوع المهاجرين «غير الشرعيين» الذين يموتون بالمئات وهم يحاولون الوصول إلى «الإلدورادو» الأوروبية على متن مراكب عفنة بعد أن يكونوا قد دفعوا كل ما يملكونه لمهربين فاقدي الإنسانية والضمير ويتاجرون بمصائر البشر.
من أصغر دبلوماسي وحتى أعلى مسؤول، الجميع يعرفون الأسباب التي جعلت هذه الظاهرة تأخذ هذا الحجم غير المسبوق. وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال فإن المسؤولين الإيطاليين، الذين تتحمل بلادهم العبء الأكبر إنْ في عمليات الإنقاذ أو الاستيعاب، يتوقعون أن يصل إلى شواطئهم ربما نحو نصف مليون مهاجر. الوتيرة الحالية متصاعدة ويصل في اليوم الواحد إلى شواطئ صقلية ما بين 600 وألف مهاجر. وتكفي عملية حسابية بسيطة لتذكر بما كان العقيد القذافي قد هدد به الدول الغربية عندما أعلن أنه قد يلجأ لترك الحدود بلا رقابة مما سيحمل إليهم مليون مهاجر.
أصابع الاتهام تتوجه إلى ليبيا، الدولة الفاشلة مفتوحة الحدود في وجه المهربين من كل حدب وصوب والراغبين في الهجرة مهما كان الثمن بما في ذلك الموت الجماعي غرقًا أو عطشًا وجوعًا. وهذا التشخيص لا يجانب الصواب؛ إذ إن السلطات الإيطالية تفيد بأن نحو 90 في المائة من المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى شواطئها ينطلقون من ليبيا. هم في أكثريتهم الساحقة من «بلدان الساحل» من موريتانيا ومالي وتشاد والنيجر وحتى دارفور ومن بلدان أفريقيا الغربية والوسطى. لكن هناك آخرين ربما يكونون أقل عددًا لكنهم حاضرون مثل مواطنين من سوريا والعراق ومصر والشيشان وأفغانستان.. وهؤلاء جميعا يستفيدون من غياب الدولة الليبية ومن قرب الشواطئ الإيطالية ومن تحسن الطقس وهدوء الأمواج في البحر الأبيض المتوسط الذي كان في فترة من الفترات «بحيرة سلام» وها هو قد تحول اليوم إلى «مقبرة بحرية».
إذا كانت ليبيا «تسهل» ظاهرة الهجرة الكثيفة فإنها ليست هي مصدرها أو المتسببة بها. الهجرة وجدت قبل أن يفلت الوضع في ليبيا. ليبيا الممر وليست المقر. السبب العميق هو المآسي التي تعيشها شعوب مغلوبة على أمرها، إنْ بسبب الحروب التي تعاني منها أو الفقر المدقع الذي يضربها والأمل الذي يحدوها في الوصول إلى عالم غني، إلى فردوس أرضي فيه مياه وكهرباء ودولة وشرطة وفرص عمل وربما رفاهية. وما دام هناك فقراء وأغنياء، فإن الأولين سيحاولون التسلل إلى بلدان الآخرين. هذا وجد منذ زمن طويل وسيبقى أيضا لزمن طويل. ولذا، فإن المعالجات «السطحية» والبوليسية التي يراهن عليها الأوروبيون الذين لا يرغبون في نزول جحافل المهاجرين على شواطئهم لن تكون نافعة. زيادة عدد الطائرات والمراكب الموكلة بحراسة الشواطئ ورصد أموال إضافية لمساعدة إيطاليا على مواجهة الجحافل الواصلة إليها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ربما سيعيدان أرقام الغارقين في مياه المتوسط إلى الوراء. لكن ذلك كله لن يحل المشكلة. العلاج المطروح يتناول القشور وليس الجذور.
بعد حادثة غرق ما لا يقل عن 700 مهاجر ليل الأحد - الاثنين الماضي، كثرت الإدانات واستفاقت الضمائر وأعيد تشغيل محركات الدبلوماسية الأوروبية والعالمية؛ الأمين العام للأمم المتحدة والجمعيات والمنظمات الإنسانية وتدخل البابا. كل أدلى بدلوه. لكن الثابت أن الغرب (وهنا الغرب الأوروبي) إنْ تثاقلت خطوات الإغاثة التي يقوم بها، فلأن حكوماته وشعوبه لا ترغب أبدا في استقبال هؤلاء.
العنصرية تفشت في البلدان الأوروبية بلا استثناء، وتأشيرات الإقامة أو اللجوء تمنح بالقطارة. حلم أوروبا أن تغلق حدودها الخارجية وألا تقبل من المهاجرين إلا الشرعيين، أي الذين يحتاجهم اقتصادها. أما القصص التي تتحدث عن حقوق الإنسان في التحرك والسفر واختيار المسكن والإقامة فلا معنى لها عندما يدق مفكرون نواقيس الخطر محذرين من فقدان الهوية الأوروبية ومن الاختلاط ومن وصول عالم «متخلف» ومن أديان غير الدين المسيحي الذي صقل هوية البلدان الأوروبية. لا بل إن بعضهم يذهب إلى حد القول إن إنقاذ المغامرين من المهاجرين غير الشرعيين ستكون له مفاعيل كارثية لأنه سيشجع الآخرين على المغامرة وبالتالي ستكون النتيجة غير تلك المرتجاة.
ربما أن ما قاله وزير الداخلية الإسباني خورخي فرنانديز دياز يوم الاثنين يعكس أشجع وعي وأصدق تصور للمشكلة ولحلولها. في ما يخص الحلول، يقول الوزير الإسباني إنه لا خلاص ولا حلول من غير «تطبيع» الأوضاع في بلدان المنشأ وفي بلدان الممر والتعاون من أجل توفير التنمية «الاقتصادية» في البلدان المعنية وإعادة السلام إلى كامل المنطقة. ويدعو دياز إلى توسيع دائرة البلدان التي يتعين عليها المشاركة في جهود التطبيع «لأن المشكلة عالمية وليست فقط أوروبية».
كيف يمكن «ترجمة» كلام المسؤول الإسباني؟ هو يعني بالدرجة الأولى أن الحلول السريعة المقترحة، مثل فرض رقابة أشد في المتوسط لمنع مراكب المهاجرين من الانطلاق نحو السواحل الأوروبية، ليست حلولا ناجعة، لأنه لا يمكن فرض رقابة كاملة على مئات الكيلومترات من الشواطئ البحرية. ما يدعو إليه خورخي فرنانديز دياز هو أن تعمل أوروبا ومعها الأسرة الدولية على إيجاد حلول للأزمات الملتهبة، سواء أكانت في سوريا والعراق أو في ليبيا وبلدان الساحل وأفريقيا، وأن تترافق هذه المبادرات مع بذل جهود حقيقية من أجل توفير التنمية للبلدان الفقيرة بحيث تنتفي الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للهجرات الكثيفة التي نعرفها اليوم.
بيد أن ما يدعو إليه دياز ويدعو إليه أيضا رئيس الوزراء هو السعي لحلول بعيدة المدى يحتاج تنفيذها إرادات سياسية حقيقية من الأطراف الفاعلة واستعدادًا لرصد الأموال اللازمة التي من شأنها تمكين بلدان «المصدر» من تحسين أوضاعها الاقتصادية وتوفير الخدمات.. ولو نظرنا لما يحصل في سوريا والعراق وليبيا وغيرها لرأينا أن دعوات تسيبراس، رئيس وزراء اليونان، ودياز، وكثيرين غيرهما، ستبقى حلمًا يدغدغ عددًا من المثاليين بينما الواقع السياسي وحقائق الأرض لا تشجع البتة.
كلمة أخيرة: ربما يتعين على سكان المتوسط ومشاطئيه الامتناع عن أكل أسماك بحرهم «الأبيض» لأن هذه الأسماك راحت تتغذى من أبدان الغارقين فيه من تعساء المهاجرين.