د. ياسر عبد العزيز
TT

«بي بي سي»... المعركة مستمرة

في الأسبوع الماضي، كانت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) -على غير ما تحب بطبيعة الحال- خبراً لمرتين، عوضاً عن أن تكون مصدراً مهماً وموثوقاً للأخبار، كما جرت العادة.
في المرة الأولى، كانت مذيعة «بي بي سي عربية» تجري حواراً مع محلل سياسي عربي أميركي، عن أبعاد تصريحات أخيرة أدلى بها الرئيس جو بايدن بخصوص أوكرانيا؛ لكن الضيف أخذ الحوار إلى منحى مختلف تماماً، حين انتقل من تحليله للوضع السياسي -مباشرة ومن دون أدنى مقدمات- إلى المطالبة بـ«مستحقاته المتأخرة لدى الـ(بي بي سي) منذ سنتين»!
تلقت المذيعة الصدمة بقدر كافٍ من الثبات، واستطاعت أن تحتوي المفاجأة، قبل أن تصرف الضيف بلطف، وتعتذر من المشاهدين؛ لكن الرسالة كانت قد وصلت بالتأكيد: ثمة مشكلة تمويل في الهيئة، أو ارتباك إداري، أديا إلى بروز هذه الممارسة الحادة على السطح.
وبموازاة هذا الحدث العارض الذي لا يعكس تحولاً استراتيجياً بقدر ما يدق أجراس التنبيه ويشوش على سمعة الهيئة، يأتي الخبر الثاني الذي يمكن اعتبار أنه يعكس مخاوف استراتيجية بامتياز على مستقبل الهيئة والأنموذج الذي تتبعه في عملها، والذي صار مصدر إلهام في عديد من دول العالم. فلقد أدلت وزيرة الثقافة البريطانية نادين دوريس بتصريحات مفاجئة، قالت فيها إن الـ«بي بي سي» في حاجة إلى البحث عن طرق جديدة للتمويل، عوضاً عن الاستمرار في تلقي رسوم الرخص من الجمهور، كما أكدت أنها ستسعى إلى عدم زيادة المبلغ الذي تحصل عليه الهيئة سنوياً لعامين مقبلين، ما يعني توليد مزيد من الضغوط المالية عليها، في ظل أزمات حالية تواجهها بالفعل.
نحن جميعاً نعرف الـ«بي بي سي»، ونعرف أنها شبكة كبيرة تنتج المحتوى الإعلامي المميز، وتوزِّعه عبر منصات متنوعة، وتبث في عدد كبير من دول العالم، وتحظى بالتقدير والثقة لدى قطاعات واسعة من الجمهور المحلي والعالمي، إلا أن بعضنا لا يعرف من أين تُمول تلك الهيئة أعمالها التي تحتاج إلى موارد ضخمة؛ خصوصاً أنها ملزمة بتحاشي اتباع النهج التجاري في إنتاج موادها التي يجب أن تتحلى بقدر كبير من المسؤولية والرصانة.
يجري تمويل الـ«بي بي سي» عبر نظام «الرخص السنوية»، وهو نظام يفرض على كل حائز لجهاز تلفزيون أو راديو في المملكة المتحدة، دفع مبلغ 159 جنيهاً إسترلينياً سنوياً، وتوجه حصيلة تلك المبالغ مجتمعة إلى صندوق يتم الإنفاق منه على أنشطة الهيئة المختلفة، وبذلك يتم ضمان حد أدنى من الاستقلالية التمويلية، تبقي الهيئة بعيداً عن سيطرة الحكومة.
ورغم عديد من المشكلات التي شهدتها عملية إقرار الميزانية الأخيرة، فقد أمكن تأمينها حتى عام 2027؛ لكن وزيرة الثقافة، بمساندة الحكومة بالطبع، تسعى إلى وضع قيود على عملية تجديد الميزانية من جانب، وإلى تقليص العوائد المفترضة عن الحقبة الراهنة، عبر منع تحصيل زيادة في الرسوم، رغم ارتفاع معدلات التضخم من جانب آخر.
تجسد فكرة الـ«بي بي سي» في بريطانيا أوضح أنماط «الخدمة الإعلامية العامة»؛ أي الهيئة الإعلامية التي يمتلكها المجموع العام، فتقوم على خدمته بشكل متوازن وعادل، من دون أن تخضع للسلطة التنفيذية التي تتغير باستمرار في ظل الحكم الديمقراطي.
إنها فكرة جيدة بكل تأكيد، فوسائل الإعلام المملوكة للدول في مناطق كثيرة من العالم تخضع لسيطرة الحكومات، وهو الأمر الذي يحولها في أغلب الأحوال إلى وسائل دعاية للحكومة. ومع ذلك، فإن النجاحات التي تحققها الـ«بي بي سي»، ومعها السمعة الحسنة والمكانة المرموقة، كثيراً ما تخفق في احتواء الهجمات السياسية التي يشنها مسؤولون يرون في الرسوم التي تتقاضاها عبئاً على محدودي الدخل، أو يتهمونها بسوء الإدارة، وبعدم القدرة على توليد العوائد ومنافسة الوسائط الخاصة، أو يعبِّرون عن غضبهم من خطها السياسي الذي يرونه «أكثر ميلاً لليسار».
وفي بعض الأحيان، يقع الصدام مدوياً بين الهيئة وبين الحكومة، وهو أمر يتكرر عادة في ظل هيمنة «المحافظين» على مجلس الوزراء؛ حيث ترشح معلومات عن محاولات للسيطرة على الخط السياسي للهيئة، أو السعي لوضع قيادات معينة على رأسها، في مقابل دفاع صلب تحت لواء «الاستقلالية».
ستكون الـ«بي بي سي» موضوعاً للأخبار لمرات أخرى قادمة للأسف الشديد؛ والأمل أن تنجح في إبقاء أنموذج أعمالها صامداً؛ خصوصاً أن أهدافه الرئيسية المعلنة تتجسد في توفير خدمة إعلامية عامة مستقلة وموثوقة، وغير مرتهنة للاعتبارات التجارية، وهو أمر نحتاجه في أصقاع العالم كلها.