توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

كثرة المتحدثين وسيولة الأفكار

كل تحوُّلٍ اجتماعي تصاحبه سيولةٌ في الأفكار والمفاهيم، تؤثر على عقائد الناس وأعرافهم، وبالتالي مواقفهم الفكرية والاجتماعية.
ماذا نعني بالتحولات الاجتماعية وسيولة الأفكار؟
تأمَّل وضع السعودية اليوم: هل تلاحظ التغيرَ الحاصلَ في الشخصيات المرجعية، في تركيب قوة العمل، في العلاقات الاجتماعية، مفهوم ومحتوى «وقت الفراغ»، نوعية القيم الموجهة، وفي لغة النقاش العام وموضوعاته؟ وهل تلاحظ التغير في منظومات الإدارة الوسطى وبعض العليا، في الإدارة الرسمية والقطاع الخاص؟ انشغالات الناس واهتماماتهم ومواقفهم ومواقعهم؟ إذا كنت تلاحظ هذا، فأنت ترى جانباً مما نتحدَّث عنه.
يتحوَّل المجتمع حين تتغيَّر طريقة الناس في التعبير عن أنفسهم ومواقفهم. وتبعاً لهذا تتغير موضوعات النقاش بين الناس، في لغتها وفي اتجاهاتها، من توكيد المألوف والمتعارف إلى معارضته وابتداع قيم وأعراف جديدة.
حصل هذا في أوائل القرن الحالي مع تعرف جمهور الشباب على الإنترنت. وهو يعود اليوم على نطاق أوسع، مع نضج الجيل الجديد، لا سيَّما الذين أتمُّوا تعليمهم الجامعي خلال السنوات العشر الأخيرة، والذين يتمتَّعون بقدرة على الوصول إلى المعلومات وجرأة على التعبير عنها، تتجاوز كثيراً ما يملكه الجيل السابق، فضلاً عن الذي قبله.
أما سيولة الأفكار، فتعني كثرتَها وتنوعَ مجالاتها، وكثرة «المتحدثين في العلن». وأريد استعمال هذا التعبير بدلاً عن تعبير «المتحدثين في الشأن العام» كما هو متعارف؛ لأنّي أرى للحديث في العلن ميزات تشابه الحديث في الشأن العام، لكنَّه أوسع منه وأعمق تأثيراً. الحديث في العلن يعني خروج الفرد من حالة التلقي والانفعال، إلى حالة الإلقاء والفعل أو التفاعل. وهذا يعادل ما نسميه تبلور «الفردانية»، أي شعور الفرد بكينونته المستقلة، وكونه صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الجماعة التي ينتمي إليها أو يعيش في وسطها. الحديث في العلن قد يشمل أشياء قليلة القيمة أو حتى تافهة، لكنه مع ذلك يعبّر عن نزوع استقلالي.
تكاثُر المتحدثين في العلن يؤدي إلى ظهور الأفكار المخالفة للسائد، في كل مجال، من السائد الديني إلى السياسي إلى الأدبي والفني والمهني والتجاري... الخ. وهذا يستثير رد فعل الطبقات المحافظة والمستفيدة من الأعراف الموروثة، فتشتبك مع المتحدثين الجدد، فينقسم المجتمع بين هذا القطب وذاك، ويزداد تبعاً لذلك عدد المتحدثين على الطرفين وعدد الأفكار المطروحة، كما أنَّ الجدل فيها يزيدها عمقاً ومتانة، حيث إنَّ التراكم الكمي يولد تراكماً كيفياً، كما يقال.
لكن سيولة الأفكار، وظروف التحول ذاتها، تسبّب فوضى عارمة في المفاهيم، أي اختلاف الصور الذهنية للشيء الواحد بين شخص وآخر. أظنُّ أنَّ كثيراً من الناس قد لاحظ النقاشات التي تشابه ما يسمونه حوار الطرشان، حين يتجادل أشخاص كثيرون حول مفهوم معيّن، ثم يتبيَّن لاحقاً أنَّ هذا المفهوم مجرد اسم، أما صورته الذهنية ومضمونه فمتعدد بعدد الذي يتجادلون حوله.
لست متشائماً من سيولة الأفكار ولا فوضى المفاهيم، فهي ظرف انتقالي يصعب تفاديه. وأظنُّه سيوصلنا إلى نمط حياة ليبرالي وعقلاني. لكنَّني أردت لفتَ نظر القراء الأعزاء للتدقيق في المفاهيم والمسميات التي يسمعونها أو يقرأونها، للتحقق من مطابقتها لتصورهم الذهني عن ذات المفهوم أو المسمى. لقد لاحظت هذا بشكل واسع حين كتبت حول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، وعن المسافة بين المصلحة الشخصية والعامة، لاحظت أنَّ الناس يتحدَّثون عن العدالة وهم يبررون التمييز بين الناس، أو ينكرون الحرية بدعوى صون المصلحة العامة... وهكذا.