رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

مصادرة القرار اللبناني وانعكاساتها عربياً

لا شيء يسير على ما يرام في لبنان. البلد تغير بشكل دراماتيكي، وهو آخذ في مزيد من التغير، نحو الأسوأ، بطبيعة الحال. إذ بالإضافة إلى مأزقه الاقتصادي - الاجتماعي العميق وجائحة «كورونا» التي أعادت تركيب المجتمعات وفق قواعد جديدة؛ ثمة تحول تدريجي يشهده على مستوى الخيارات الاستراتيجية الكبرى، وعلى مستوى الهوية الوطنية التي لطالما تعرضت إلى انتكاسات ولم تكتمل معالمها نتيجة الانقسامات والتجاذبات.
لبنان مختطف سياسياً، وقراره مصادر ومقبوض عليه من قبل المحاور الإقليمية التي تجيد بسط نفوذها وتوسيع دورها عبر أذرع تنفيذية تدين لها بالولاء ولا تكترث في العمق إلى المصالح الوطنية للدول التي تنشأ فيها، بل تناقضها في الكثير من الأحيان لأنها تكون في اتجاه معاكس تماماً.
إن السياسات التي تنتهجها تلك الأطراف والخيارات التي تعتمدها لم تعد تتحرك في الخفاء، لا بل هي صارت أكثر انكشافاً ووضوحاً، حتى إنها لم تعد تكترث لمراعاة الشكليات اللفظية التي كانت تستوجبها في بعض المراحل طبيعة التكوين السياسي اللبناني القائم على التعددية والتنوع ورفض الأحادية. لذلك، لم تعد تلك الأطراف ترى ضيراً في المجاهرة بخياراتها والتهديد العلني بـ«تأديب» كل من يناقضها أو يسترسل في مناهضتها.
إن الانكفاء العربي عن لبنان يسهم في تعميق الاختلال في موازين القوى، ويجعل إمكانات التغيير و«استعادة» لبنان موقعه الطبيعي ضمن الحاضنة العربية أكثر صعوبة. صحيح أن المسؤولية الأولى تقع على اللبنانيين للكفاح السلمي في سبيل الحفاظ على هوية بلادهم، وأن ذلك يتطلب مساراً طويلاً من التضحيات على ضوء موازين القوى الإقليمية؛ ولكن الصحيح أيضاً أن انسلاخ لبنان عن محيطه العربي هو خسارة عربية إلى حد بعيد.
من هنا، فإن إشاحة النظر عن لبنان وترك أبنائه إلى قدرهم يواجهون وحدهم مصيرهم المجهول والأسود، من شأنه أن يترك تداعيات سلبية على الصعيد العربي عموماً. لا شك أن الواقع العربي العام ليس في أفضل أحواله، فالأزمات التي تحاصر المنطقة العربية تتفاقم نتيجة التفكك والانقسام وغياب الحد الأدنى من التعاون والتنسيق أقله لتحقيق التقارب الاقتصادي إن لم يكن الاتفاق على الخيارات الاستراتيجية الكبرى. ولا شك أيضاً أن الفكرة العربية بشكل عام تتلاشى بشكل تدريجي بطيء، ناهيك عن تراجع الاهتمام بقضية العرب التاريخية والمركزية أي قضية فلسطين.
ولكن، رغم كل ذلك، ثمة مساحات مشتركة يمكن العمل على توسيعها، ومن المتاح لها أن تسير من دون أن تتطلب بالضرورة بناء تفاهمات استراتيجية كبرى لم تتحقق خلال عقود من الزمن. ومن أبرز تلك المجالات التعاون الاقتصادي العربي - العربي وفيه مصلحة أكيدة على مستوى التبادل التجاري، بما يحقق التكامل في مجالات معينة.
لقد خطت أوروبا في خلال سنوات قليلة خطوات هائلة على صعيد التعاون البيني في الاقتصاد والبيئة والتجارة وحرية انتقال البضائع والأشخاص، ذلك أن مشروعها الوحدوي انطلق من منظمة الفحم والحديد في عقد الخمسينات من القرن الماضي وتوسع تدريجياً ليصل إلى الواقع الراهن. صحيح أن المشروع الوحدوي الأوروبي تعرض بدوره إلى انتكاساتٍ كان آخرها انسحاب ركن أساسي منه وهو بريطانيا، ولكن هذا لا يلغي الفوائد الجمة التي تحققت للدول والشعوب خلال العقود المنصرمة.
الفكرة الأساسية من هذا المثال ترمي إلى التأكيد أن ثمة مجالات يمكن النفاذ منها لتحقيق خطوات تدريجية في السياسة والاقتصاد. ولبنان اليوم بحاجة ماسة لاستعادة هويته العربية التي تطلب حسمها سنوات طويلة من النزاعات الدموية والنضالات السياسية التي كرّستها وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي أقرت في مدينة الطائف السعودية، وأصبحت مضامينها جزءاً من الدستور اللبناني في عام 1990.
إن تحميل اللبنانيين جميعاً وزر أفعال أطراف معينة دون سواها إنما يوقع الظلم عليهم بشكل جماعي، ويحملهم ما يفوق طاقتهم وقدراتهم. كما أن ترك لبنان يواجه قدره دون احتضان عربي هو خيار مدمر للبنان ومضر للمنطقة العربية بشكل عام. لبنان يستحق مقاربات جديدة قبل فوات الأوان.