الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

بوتين وأوكرانيا و«الجنرال ثلج»

ارتفع سقف التهديدات هذا الأسبوع بين روسيا والمعسكر الغربي بسبب النزاع حول حشود القوات الروسية على حدود أوكرانيا، وتحذير واشنطن وقيادة حلف الأطلسي للرئيس فلاديمير بوتين من غزو تلك البلاد المقيمة الآن على خط النار. الأمين العام لهذا الحلف ينس ستولتنبرغ لم يتردد بالقول إن العالم يواجه خطراً حقيقياً من قيام نزاع مسلح جديد في أوروبا. والدبلوماسيون الأميركيون دعوا بوتين إلى الاختيار بين المواجهة والعودة إلى الحوار. تكررت المقارنة مع أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت تأخذ العالم إلى حرب عالمية ثالثة. وفي أوكرانيا يستعدون لمواجهة احتمالات الغزو الروسي، مع تحذير لموسكو من أنها ستواجه ما واجهه نابليون عندما أغرقه «الجنرال ثلج» في الأقاليم الروسية المتجمدة وعاد من غزوته خائباً سنة 1812، تلك الخيبة التي حولها تولستوي إلى مادة لأحد أروع أعماله الروائية (الحرب والسلم) واحتفى بها تشايكوفسكي في تحفته الموسيقية «افتتاحية 1812» التي يتخللها مقطع ساخر من النشيد الوطني الفرنسي (المارسييز).
هل يمكن أن يكون العالم على أعتاب مواجهة عسكرية بين روسيا والغرب، من النوع الذي لم نشهد مثله حتى في زمن الحرب الباردة؟ وهل يمكن أن يغامر بوتين بمثل هذه المواجهة التي يعرف عواقبها، فيما لم يجرؤ الاتحاد السوفياتي، حتى في زمن مجده الغابر، على الخروج عن قواعد الصراع التي تم التفاهم عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وبقيت على حالها، إلى أن انهار ذلك الاتحاد نتيجة الظروف الصعبة التي واجهها هو ودول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه؟
لا تقتصر الحملة التي يخوضها الرئيس فلاديمير بوتين مع الغرب بشأن مستقبل أوكرانيا على هذا البلد. بوتين يعرف حدود القدرات الروسية، كما يدرك أن الدول الغربية ليست مستعدة للذهاب إلى مواجهة بسبب أوكرانيا. ولو كانت تريد مواجهة كهذه، كان الأجدى أن تقوم بها رداً على غزو شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا سنة 2014، عندما كان جو بايدن يتولى منصب الرجل الثاني في القيادة الأميركية.
ما يريده بوتين من هذا التصعيد أمرين؛ الأول موجه للداخل الروسي، لفرض صورة «القيصر»، القادر على الدفاع عن مصالح روسيا واستعادة ما يعتبره سقوط مجدها بانهيار الاتحاد السوفياتي. والثاني إلى الدول الغربية، لابتزاز ما يستطيع لمنع حلف الأطلسي من التقدم أكثر نحو الحدود الروسية. وفي اجتماعات بروكسل هذا الأسبوع ظهر مطلب روسي آخر بسحب قوات «الأطلسي» من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الراحل، التي انضمت إلى الحلف بعد سنة 1997. وعين بوتين بالتحديد على دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) وهي دول لا تبعد عن مدينة سان بطرسبورغ، ثاني كبرى المدن الروسية، سوى 200 كيلومتر.
في مؤتمره الصحافي السنوي الذي يعقده في الأيام الأخيرة من كل عام، أخذت مسألة الخلاف الروسي – الغربي حول مستقبل أوكرانيا وموقعها الاستراتيجي، مساحة كبيرة من المواقف التي أعلنها فلاديمير بوتين. حاول أن يبدو بمظهر المعتدى عليه من القوى الغربية التي «جاءت إلى باب بيته»، كما قال، ولم يبقَ أمام روسيا خيار سوى الدفاع عن النفس. سأل بوتين: هل نحن الذين ذهبنا إليكم (يقصد الأميركيين) وأقمنا قواعدنا على حدودكم، في كندا والمكسيك مثلاً، أم أنكم أنتم الذين جئتم بصواريخكم وقواعدكم ونصبتموها قرب حدودنا؟
لم يسأل بوتين السؤال البديهي: لماذا يختار جيرانه الهرب إلى المظلة الأطلسية، فيما لا تفكر كندا أو المكسيك مثلاً في فتح أبوابهما للرياح الروسية؟
ليست الصواريخ ولا القواعد العسكرية هي التي تقلق بوتين. ما يقلقه هو نموذج الحكم الذي تسعى إليه الدول التي كانت تحت قبضة موسكو ووجدت فرصة لتختار بنفسها الطريق الذي تريده. هو لا يريد أن يتكرر هذا النموذج على بابه، ولا يريد أن تلحق بأوكرانيا (التي تمكنت من خلع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الذي اختاره بوتين ليحكم شعبها) دول أخرى مثل بيلاروسيا وجورجيا ومؤخراً كازاخستان. ويخشى أن تنتقل هذه العدوى إلى الداخل الروسي. هو لا يحب «الثورات الملونة» كما قال، ويختار حلفاءه بعناية ومن لون واحد من نوع بشار الأسد وعلي خامنئي ومن يشبههما.
بوتين ابن مدرسة لا تعترف بحق الشعوب في أن تدافع عن سيادتها وأن تقرر مصيرها بنفسها. هي المدرسة التي كانت ترى في غزو بودابست سنة 1956 والزحف على براغ في ذلك الربيع الدامي سنة 1968 عملاً طبيعياً لتأديب من يفكرون في الخروج عن آداب الطاعة. ولذلك يرى غريباً أن تفكر أوكرانيا، التي يراها بلداً «غير طبيعي»، في اختيار الرئيس الذي تريد أن يحكمها أو أن تجرؤ على طلب الانضمام إلى حلف الأطلسي رغم معارضة «الأب الروحي».
حرية الشعوب التي كانت خاضعة لهيمنة موسكو هي مصدر قلق بوتين، لأنه يعرف الوجهة التي ستتجه إليها تلك الشعوب عندما تتمتع بحقها في الحرية.
أذكر حديثاً لي في مطلع الثمانينات مع الأمين العام السابق لحلف الأطلسي، جوزيف لونز، ذلك الدبلوماسي الهولندي الذي أمضى في ذلك المنصب فترة أطول من أي أمين عام آخر للحلف (بين 1971 و1984). كان ذلك في زمن الصراع الأميركي – السوفياتي المحتدم، أيام رونالد ريغان وليونيد بريجنيف ومارغريت ثاتشر والمواجهات الآيديولوجية الكبرى. سألت لونز عن استعدادات حلف الأطلسي للرد على أي تصعيد من جانب موسكو ضد أوروبا الغربية. قال: نحن أساساً حلف دفاعي والاتحاد السوفياتي هو أعجز من القيام بأي هجوم. مكامن ضعفه في داخله وهي التي ستؤدي إلى انهياره.
كان ذلك قبل عقد كامل من سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه سائر أنظمة الكتلة الشرقية. بوتين عاش مرحلة السقوط وعانى من ذيولها. لكنه يرفض الاعتراف بأسباب ذلك الانهيار. وبدلاً من الالتفات إليها ومحاولة علاجها، لا يجد أمامه سوى تحميل المسؤولية للغرب، ومحاولة إعادة التاريخ إلى ما قبل عام 1991.