فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

كيف ستنتهي أزمة أوكرانيا؟

إنَّ تفاقم الأزمة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة أخرى، بسبب المشكلات الأمنية، له تأثير كبير على نظام العلاقات الدولية برُمَّته. ومن دون شك؛ فإنَّ صدى التطور اللاحق لهذه الأزمة سيصل إلى الشرق الأوسط.
يُعدُّ الوضع في أوكرانيا وما حولها إحدى المشكلات الرئيسية الكامنة وراء هذا التفاقم. ويتَّهم سياسيون غربيون روسيا بالتحضير لغزو أوكرانيا، في إشارة إلى تحرك جزء من القوات الروسية في المناطق الغربية من البلاد إلى الحدود الروسية الأوكرانية، وهو ما نفته القيادة الروسية بشكل قاطع، باعتباره ادعاءً ليس له معنى وخالياً من الأدلة.
وبطبيعة الحال، تعتبر موسكو إعادة انتشار معينة للقوات الروسية في المناطق الغربية من البلاد وعلى أراضيها، حقاً سيادياً لها، وهذا التحرك الداخلي لجزء من قواتها لا يهدّد مصالح أي جهة. ويقول وزير الخارجية سيرغي لافروف، إنَّ الغرب الذي يؤجج الوضع، ويهدّد روسيا بعقوبات «غير مسبوقة»، يريد إثارة «حرب صغيرة» في أوكرانيا، واتهام روسيا بذلك.
كما تعتبر موسكو بدورها ضخَّ الأسلحة لأوكرانيا وخطط جرِّها إلى «الناتو» مع نشر أسلحة هجومية على أراضيها، تهديداً وجودياً لأمن روسيا. ولا عجب في أنَّ احتمال ظهور صواريخ أميركية في أوكرانيا، على مسافة 5 دقائق تحليق عن موسكو، يثير ردة فعل حادة من قبل القيادة الروسية، إذ لا يمكن للكرملين أن يسمح بذلك. وبات من المعروف أن موسكو تدعو من خلال الوثائق التي أرسلتها روسيا في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2021 إلى واشنطن وبروكسل (مشروعا معاهدة واتفاقية) الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى تقديم ضمانات مكتوبة لأمن روسيا، بما في ذلك الامتناع عن ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف.
لماذا مكتوبة؟ لأنه في الماضي، قدمت الولايات المتحدة وعوداً، أولاً إلى الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، ثم إلى بوريس يلتسين، بعدم توسيع «الناتو» شرقاً، وهو ما تم توثيقه في بروتوكولات المفاوضات، بينما تم بعد ذلك نكث هذه الوعود، وتوسع الحلف شرقاً على دفعتين. الآن، بطبيعة الحال، لن يصدق أي شخص آخر الوعود الشفوية. ويمكن القول إن بوتين يصحح خطأ غورباتشوف الذي سمح بخروج روسيا من الحرب الباردة، من دون التوقيع على اتفاق يأخذ في الحسبان مصالح أمنها.
لقد أُطلق على مقترحات موسكو اسم «إنذار بوتين»، بما يتوافق مع الدعوة المعروفة التي وجهتها القيادة السوفياتية إلى الشعب السوفياتي، في بداية الهجوم المضاد ضد القوات النازية عند تخوم موسكو، في أواخر عام 1941 والتي جاء فيها: «روسيا عظيمة وكبيرة؛ لكن لا مجال للتراجع، ففي الخلف موسكو». وليس هناك ضرورة للحديث عن التجاوب الكبير الذي لقيته هذه الدعوة في قلوب الروس؛ حيث لا تزال ذاكرة الحرب الوطنية العظمى قوية. يصر الغرب على أن لكل دولة الحق في اتخاذ قرار مستقل، بشأن الانضمام أو عدم الانضمام إلى الحلف الذي بدوره يتخذ القرار بنفسه بالشكل الذي يراه مناسباً.
لكن من الطبيعي تماماً أن يُطرح السؤال في روسيا: كيف كانت ستتصرف الولايات المتحدة في حال -فرضاً ومن الناحية النظرية البحتة- دار الحديث عن انضمام دول مجاورة لها، مثل المكسيك أو كندا إلى حلف عسكري يعتبرها عدواً له؟
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى الأزمة الكوبية عام 1962، والتي كادت تؤدي إلى حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. بالمناسبة، أغلقت روسيا في عام 2001 قاعدتها للتنصت الإلكتروني في تورينسي، إحدى ضواحي هافانا التي أطلق عليها الأميركيون لقب «لورديس». ويعتقد بعض المحللين الروس أنه في ظل الظروف الحالية كان بإمكانها أن تكون مفيدة للغاية. وحتى أثناء محاولة التحلي بالحياد الأكاديمي، من الصعب عدم رؤية المنطق الصارم في طرح موسكو. فهي تستبعد احتمالية الحرب، وتراهن على المفاوضات والدبلوماسية. ويعول الرأي العام الروسي الموحد بشكل غير مسبوق اليوم، على إمكانية التوصل إلى حل وسط، ولكن ليس على حساب مصالح روسيا.
ويبقى السؤال: بماذا ستنتهي سلسلة المحادثات بين الوفدين الروسي والأميركي، في جنيف، في 10 يناير (كانون الثاني)، ثم بين الوفد الروسي و«الناتو» في إطار «مجلس روسيا- الناتو» في 12 يناير، وبين ممثلي الاتحاد الروسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في 13 يناير؟ وهل هناك أي حل وسط ممكن على الإطلاق؟ مع مراعاة أن موسكو حقاً لم يبقَ لديها مجال للتراجع.
بالطبع، لا أحد في روسيا يريد أي حرب؛ خصوصاً في أوكرانيا؛ حيث يعيش الشعب الأوكراني الشقيق وملايين الروس. ومع ذلك، فإن عديداً من المحللين الغربيين يناقشون فرص كسب الحرب في أوكرانيا، بمشاركة روسيا والولايات المتحدة، على الرغم من أننا لم نشهد حتى الآن رغبة كبيرة -كما يبدو- من جانب أميركا، للمشاركة في مثل هذا المشروع المحفوف بالمخاطر.
وأخشى في الوقت نفسه من أن قادة الولايات المتحدة وحلفاءها في «الناتو» لا يدركون بعد التغييرات الهائلة التي تحدث في الساحة العسكرية والسياسية العالمية.
اليوم، لم يعد العالم هو نفسه، وقد حان الوقت للتخلي عن أفكارهم القديمة عنه. وبالطبع، كما قال مايك ديفيس ذات مرة: «اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) بالمعنى الحقيقي للكلمة، ليست الحلم بالفردوس، ولكنها الدفاع عن الضروري من الواقعي». لكنني أخشى أن يوتوبيا «الناتو» لن تصمد أمام التصادم مع الحقائق الجديدة للعالم. فالقوة العسكرية الروسية هي واحدة من أهم الحقائق الجديدة.
ومن بين أصوات الخبراء الأميركيين، يبرز صوت أولئك الذين يطالبون واشنطن بالتخلي عن الأوهام. فوفقاً للمحارب القديم في الجيش الأميركي، العقيد المتقاعد والمحلل المحافظ دوغلاس ماكغريغور، على الرغم من حقيقة أن إدارة جو بايدن تنفق 768.2 مليار دولار على الدفاع الوطني، وروسيا تنفق 42.1 مليار دولار فقط، وهو أقل من الميزانية العسكرية لكوريا الجنوبية البالغة 48 مليار دولار، فإن القوات البرية الروسية متفوقة في القدرة القتالية والقوة الضاربة على الجيش الأميركي وفيلق مشاة البحرية. وهذا التفوق الذي تتمتع به القوات المسلحة التقليدية الروسية، في هذه الحالة بالذات، يرجع جزئياً إلى حقيقة أنها ستقاتل في أوكرانيا بالقرب من حدودها.
أضيف إلى ذلك، أن التدريب العالي تقليدياً، والمعنويات القتالية، والشعور بالوطنية، ستدفع وتوحد العسكرين الروس، في حال تعين عليهم الدفاع عن أرضهم. وليس من قبيل المصادفة أن المحلل العسكري الأميركي المذكور أعلاه (لفت الانتباه إلى أنه أميركي، وليس روسياً، وهو ليس وحيداً على الإطلاق في مثل هذه التقييمات، حسبما أرى من خلال الشبكات الاجتماعية) يشير أيضاً إلى النتائج المهمة للغاية للإصلاح العسكري وإعادة التسلح اللذين أجراهما بوتين. وهو يكتب أيضاً أن روسيا لديها الآن تشكيلات مسلحة متنقلة، مرنة عملياً ومدربة جيداً وقوية، تستخدم على وجه الخصوص وبشكل فعال المدفعية الصاروخية والصواريخ الباليستية التكتيكية.
على النقيض من ذلك -وفقاً لماكغريغور- هناك مجموعة غير متجانسة من وحدات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الموجودة خلف الحدود البولندية، والتي على الرغم من السنوات العديدة من التعاون، ستجد صعوبة في القتال بفعالية كقوة واحدة؛ خصوصاً بعيداً عن حدود الولايات المتحدة. ويُظهر مثالاً أفغانستان والعراق أن حلفاء الولايات المتحدة ليس لديهم الكثير ليضيفوه إلى جهودهم العسكرية.
ويضيف المحلل الأميركي محذراً أولئك الذين يعملون على إشعال الحرب، أن «النخب السياسية الغارقة في الفساد والمفلسة أخلاقياً في واشنطن، تخطو نحو حقل ألغام».
أما فيما يتعلق بالعقوبات الأميركية «غير المسبوقة» تحت ذرائع مبتكرة، فإن روسيا مستعدة لها، بما في ذلك في حال فصلها عن نظام سويفت (SWIFT)، إذ لديها نظامها الخاص الجاهز لمثل هذه الحالة.
ويذكِّر الدبلوماسي البريطاني السابق أليستر كروك، بكيفية إصابة الغرب بالذهول، عندما دخلت روسيا سوريا في عام 2015، وعرقل الجيش الروسي خطة واشنطن لإطاحة الحكومة السورية. وعلى حد تعبيره، فإن الرسالة اليوم هي التالية: إما أن تقوموا بـ«فنلندة» أوكرانيا (جعلها مثل فنلندا)، وإما أن تقوم روسيا بذلك نيابة عنكم.
بالمناسبة، لا أرى شيئاً سيئاً في مثل هذه النتيجة للشعب الأوكراني الشقيق.