جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

التعايش مع العدو

عامٌ آخر يطوي صفحاتِ أيامه ويغادرنا راحلاً، مفسحاً المكان أمام عام جديد، ليحل بيننا مُحمّلاً بمفاجآته. وبحلوله، تكون البشرية قد دخلت عاماً ثالثاً في صراعها الصعب والمرهق مع الوباء الفيروسي «كوفيد» وتحــوّلاته المتطورة. التطور الأخير للفيروس - «أوميكرون» - أربك الدنيا من جديد، وقلب حسابات الحكومات والمؤسسات الصحية الدولية رأساً على عقب، وصاعد من وتيرة التوتر وتفاقم الخوف في مختلف القارات، وزعزع، إلى حد ما، من ثقة الإنسان بنفسه وبقدراته.
ما أنتجته - حتى الآن - المختبرات العلمية، شرقاً وغرباً، من لقاحات وعقاقير، وما قامت به حكومات دول العالم من جهود لمحاصرته والتقليل من انتشاره، وما أنجزته من حملات تطعيم ضد شروره، ما زالت كلها، للأسف الشديد، قاصرة على القضاء على الفيروس نهائياً. ويبدو أن الإنسانية، استناداً إلى آراء العلماء والمختصين، ستضطر راضخة إلى التعايش مع العدو، لفترة زمنية ليست بالقصيرة، كما فعلت مع غيره من الأوبئة الفيروسية على مرّ الزمن. ويبدو كذلك، أنه لا بد لنا من إعادة النظر في مسارات حياتنا اليومية، وإمكانية إعادة جدولتها، بما يضمن التكيّف مع الوضع الحالي، وذلك بإفساح حيز صغير آخر يتيح لنا التعايش، جنباً لجنب، مع عدونا الوبائي، بما يضمن استمرارية حياتنا.
إذا كان لا مفرّ أمامنا من التكيّف في العيش مع الفيروس، فليس لنا سوى الامتثال، هكذا علمتنا التجارب، وما يتطلبه منطق الأشياء والواقع. وهذا ليس بالأمر الجديد. فما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، هو قدرته على إعادة برمجة حياته، وتعديلها مع ما يستجد من حوله من أمور باختلافها. وفي نهاية الأمر، فإن التعايش مع الفيروس الوبائي لن يكون أسوأ من التكيّف والتعايش، جنباً لجنب، مع الإرهاب، بأشكاله ومسمياته كافة، والرايات التي يرفعها. ولن يكون كذلك أسوأ من التعايش والتكيف مع ما خبر البشر من أنظمة سياسية لا تقل وحشية وقسوة، مثل النازية والفاشية والحكومات الديكتاتورية. ولن يكون كذلك بقسوة ما شهده عالمنا الصغير من حروب ساخنة وباردة. التعايش مع الكوارث السابقة لم يستمر طويلاً؛ لأن الإنسانية تمكنت من دحرهم جميعاً، وإن كان بثمن مكلف جداً بشرياً وعمرانياً.
ضرورة البقاء، ومواصلة الحياة فوق سطح الأرض وتحت الشمس، تفرض على الإنسان التكيّف، بمحاولة التعايش مع أعدائه، وإن كان في أغلب الحالات صعباً. وإن القبول بالتكيف والتعايش مع آفة فيروسية، مثل «كوفيد»، قد يكون، كما اتضح، مرهقاً، ويزيد في ثقل أعباء الحياة على كواهلنا، لكنه في آخر الأمر، وبمرور الوقت، يكتسب طابع الاعتيادية، ونتعوده. والتعود لا يعني توقف المقاومة حتى القضاء عليه.
ويقيناً، لا أحد بمقدوره التخمين بنوع الضربة القادمة، التي ستوجهها الطبيعة إلى الإنسانية، ضمن صيرورة الصراع الذي بدأ بينهما منذ تاريخ طويل. إذ كلما اعتقد الإنسان أنه سيطر على الطبيعة، وسخّرها لمشيئته، فاجأته الطبيعة بمكرها ودهائها ومقاومتها، وقلبت حساباته، وكأن لسان حالها يعلّمه أنها لن ترفع راية الاستسلام مطلقاً، وأن عليه، منذ الآن وصاعداً، التعامل مع الطبيعة وفق معادلة جديدة، بالسعي إلى تأسيس علاقة لا تقوم على الخضوع والسيطرة، بل على مبدأ مختلف، يضمن للطبيعة والإنسان مناخاً يتيح لهما عيشاً مشتركاً، قائماً على التعاون وتبادل المصالح. وليس مجرد هدنة مؤقتة بين جيشين متحاربين.
الإنسانية، في مختلف حقب تطورها المتلاحقة، لم تكن حقاً على وفاق مع الطبيعة، بل في حرب ضدها. ولم تكن تحسن معاملتها، بل تسعى لإخضاعها بمختلف الوسائل والحيل. وبدورها، تعلمت الطبيعة أيضاً من تجاربها وخبراتها أساليب مقاومة عديدة، يصعب على الإنسان التكهن بها. وكثيراً ما سببت هجماتها المعاكسة ضربات موجعة وخسائر فادحة للإنسان وحضارته، زعزعت من أسس صروح ثقته، وشككت في قدراته. أضف إلى ذلك، أن الإنسانية، ما زالت رغم ما حققته من تفوق علمي وحضاري، تسلك، غالب الأوقات، سلوكاً مريباً مثيراً للتعجب والتساؤل، يشكك في قدرتها على تعلم الدروس، والاستفادة من تجارب صراعها مع الطبيعة. وتجربة انتشار الوباء الفيروسي - في نظري - تمثل هجوماً معاكساً آخر، غير متوقع، في تلك الحرب الطويلة، قادته الطبيعة، بدهاء ومكر، ضد دفاعات الإنسان، واخترقتها بسرعة تفوق سرعة اختراق القوات الطالبانية لدفاعات الجيش الحكومي الأفغاني، واحتلالها للعاصمة الأفغانية كابل مؤخراً، بعد انسحاب القوات الأميركية منها. وحتى يأتي الوقت الذي يقتنع فيه الإنسان بضرورة إبداء حسن نية تجاه الطبيعة، علينا أن نتعلم، مرة أخرى، التعايش مع العدو الفيروسي الذي حلَّ فجأة في أرضنا، وأقام بيننا.