د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«تصفح» العقول وإرهاف السمع

يعد معدل سرعة كلام الإنسان المنطوق 175 كلمة في الدقيقة تقريباً، كما تشير إحدى الدراسات، وهو ما يعني أن المرء يمكن أن يتحدث بصورة مستمرة (كالمذياع) بمعدل 10.500 كلمة في الساعة (أي 175 كلمة ضرب 60 دقيقة). ولو افترضنا أن معدل كلمات الصفحة الواحدة في كتاب هي 350 كلمة فإن إجمالي عدد الكلمات في الكتاب يتكون من 200 صفحة قد يبلغ 70 ألف كلمة. وهذا يعني أننا يمكن أن نسمع كتاباً كاملاً كهذا خلال 6 إلى7 ساعات (70 ألفاً ÷ 10.500 كلمة في الساعة).
هذه الأرقام المبسطة تصور لنا «حجم» وخطورة المعلومات التي تتناهى إلى أسماعنا، لا سيما عندما ننسى أن نفرق بين الغث والسمين. ولو أمضى أحدنا جل يومه في حسن انتقاء ما يسمع، ومن يجالس، لكانت المحصلة النهائية مبهرة. وذلك من حيث جودة المعلومات، والتجارب، والأخطاء، والنجاحات التي يمكن أن نتعلمها ممن حولنا.
ولتصور حجم المعلومات وجودتها، لننتقي إذاعة لا بأس بها من ناحية جودة المواد وتنوعها مثل «BBC». هذه المحطة انطلقت عام 1938 بعبارة شهيرة: «سيداتي سادتي، نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية للمرة الأولى في التاريخ». ومنذ ذلك الحين وهي تبث أطناناً من المعلومات، والأخبار، واللقاءات، والتقارير المنوعة التي أثرت أذن المستمع العربي. وربما لم يدر في خلد مذيع «بي بي سي» كمال سرور، أن هذه العبارة التي افتتح بها أول بث إذاعي عربي كانت بمثابة الإعلان عن حقبة جديدة في مسيرة الثقافة والتعلم الشفهي للإنسان العربي.
ففي ذلك الحين لم تكن هناك تلفزيونات ولا إنترنت ليعلم الإنسان ما يجري من حوله. فكانت «بي بي سي» هي الرافد المعرفي والإخباري المسموع. وكانت تضم إلى جانب أخبارها برامج متنوعة: سياسية واجتماعية وأدبية وإخبارية وغيرها. وربما لا يستطيع المرء أن يتخيل ما يسمعه على مدار الساعة من كلام جيد حتى يُصَف في كتاب أو مجلة حينها سيستوعب قيمة وحجم تلك المعلومات. وهذا بالضبط ما فعلته «مجلة المستمع العربي» التي نشرت في حقبة الأربعينات، حيث كانت تضم بين دفتيها روائع ما بثته إذاعة «بي بي سي» مثل تقارير مراسليها حول العالم ومقالات الرأي وبرامج التسلية الفكرية وأحدث الابتكارات العلمية والطبية. وحسبما ذكر المستشار الإعلامي رضا سالم الصامت، في مقال له، أن المجلة حوت زاويا متعددة مثل «عالم الأدب، وأصحاب الرأي، ومن ثمرات المطابع، والحديث الثقافي، في ربوع بريطانيا، والتجارة والصناعة، وفي ركاب العلم»، وكان ذلك بعد أن تحول اسمها إلى مجلة «هنا لندن»، وكانت واسعة الانتشار في العالم العربي.
وما يهمنا أن المرء لو حاول تخيل حجم المعلومات التي يصغي إليها طوال عمره، فسيدرك عظيم المنفعة التي يجنيها من نعمة تصفح عقول الناس وإرهاف السمع إلى دررهم.